وقد علمنا أن النشأة الأول أوجدها الله تعالى على غير مثال سبق وركبها في أي صورة شاء وهكذا النشأة الآخرة يوجدها الحق على غير مثال سبق مع كونها محسوسة بلا شك فينشىء الله النشأة الآخرة على عجب ألذنب الذي بيقى من هذه النشأة الدنيا وهو أصلها فعليه تتركب النشأة الآخرة فقوله تعالى كما بدأكم تعودون راجع إلى عدم مثال سابق كما في النشأة الأولى مع كونها محسوسة بلا شك إذ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم من صفة نشأة أهل الجنة والنار ما يخالف هذه النشأة الدنيا وقوله وهو أهون عليه : لا يقدح فيما قلنا لأن البدء إن كان عن اختراع فكر وتدبير كانت إعادته إلى أن يخلق خلقاً آخر مما يقارب ذلك ويزيد عليه أقرب إلى الاختراع في حق من يستفيد الأمور بفكرة والله متعال عن ذلك علواً كبيراً فهو الذي يفيد العالم ولا يستفيد ولا يتجدد له علم بشيء بل هو عالم بتفاصيل ما لا يتناهى بعلم كلي فعلم التفصيل في عين الإجمال وهكذا ينبغي لجلاله أن يكون قال أبو حامد الغزالي رحمه الله أن العجب المذكور في الخبر والنفس وعليها ينشأ النشأة الآخرة أي كلما يتكون شجر كثير الأصول والأغصان من الحبة الصغيرة في الطين كذلك جسد الإنسان من حبة العجب الذي لا يقبل البلى فعبر عنه الإمام بالنفس لأنه مادتها وعنصرها هكذا أوله البعض وقال غيره مثل أبي يزيد الرقراقي المراد من العجب جوهر فرد وجزء واحد لا يقبل القسمة والبلى فيه قوة القابلية الهيولانية بل هو صورة هيولي النفس الحيوانية الحاملة لاجزاء العناصر التي في الهيكل المحسوس فيبقيه الخالق ويعصمه من التغير والبلى في عالم الكون والفساد بل خلقه من أول خلق النشأة الدنيوية إلى الأبدان الجنانية وعليه مدار الهيكل يبقى من هذه النشأة الدنيا لا يتغير وعليه ينشأ النشأة الآخرة وكل ذلك محتمل لا يقدح في شيء من الأصول الشرعية في الأحكام الأخروية وتوجيهات معقولة يحتمل أن يكون كل منها مقصود الشارع بقوله عجب الذنب وقال حضرة الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر والذي وقع لي به الكشف الذي لا أشك فيه أن المراد بعجب الذنب هو ما يقوم عليه النشأة ونو لا يبلى أي لا يقبل البلى والفناء فإن الجواهر والذوات الخارجة إلى الوجود من العدم لا تنعدم أعيانها ولكن تختلف عليها الصور الشهادية والبرزخية بالامتزاجات التي هي أعراض تعرض لها بتقدير العزيز العليم فإذا تهيأت هذه الصور بالاستعداد لقبول الأرواح كاستعداد الحشيش بالنارية التي هي فيه لقبول الاشتعال والصور البرزخية كالسرج مشتعلة بالأرواح التي فيها فينفخ اسرافيل نفخة واحدة فتمر تلك النفخة على تلك الصور البرزخية فتطفئها وتمر النفخة التي تليها وهي الأخرى إلى الصور المستعدة للاشتعال وهي النشأة الأخرى فتشعل بأرواحها فإذا هم قيام ينظرون نسأل الله تعالى أن يبعثنا آمنين بجاه النبي الأمين
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٩٩
﴿وَعِندَنَا كِتَـابٌ حَفِيظُ﴾ بالغ في الحفظ لتفاصيل الأشياء كلها أو محفوظ من التغير والمراد إما تمثيل علمه تعالى بكليات الأشياء وجزئياتها بعلم من عنده كتاب محيط يتلقى منه كل شيء أو تأكيد لعلمه بها بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ﴾ اضراب وانتقال من بيان شناعتهم السابقة إلى بيان ما هو أشنع منه وأفظع وهو تكذيبهم للنبوة الثابتة
١٠٥
بالمعجزات الباهرة فالأفظعية لكون الثاني تكذيباً للأمر الثابت من غير تدبر بخلاف الأول فإنه تعجب ﴿لَمَّا جَآءَهُمْ﴾ من غير تأمل وتفكر تقليداً للآباء وبعد التأمل تمرداً وعناداً وجاء بكلمة التوقع إشعاراً بأنهم علموا بعد علو شأنه وإعجازه الشاهد على حقيقته فكذبوا به بغياً وحسداً ﴿فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ﴾ من مرج الخاتم في أصبعه إذا جرج بالجيمين كفرح أي قلق وجال واضطرب من سعته بسبب الهزال أي في أمر مضطرب لإقرار له من غلبات آفات الحس والوهم والخيال على عقولهم فلا يهتدون إلى الحق ولذا يقولون تارة إنه شاعر وتارة ساحر وأخرى كاهن ومرة مفتر لا يثبتون على شيء واحد وهذا اضطرابهم في شأن النبي عليه السلام صريحاً وبتضمن اضطرابهم في شأن القرآن أيضاً فإن نسبتهم إياه إلى الشعر ونحوه إنما هي بسببه واعلم أن الاضطراب موجب للاختلاف وذلك أدل دليل على البطلان كما أن الثبات والخلوص موجب للاتفاق وذلك أدل دليل على الحقيقة فإن الحسن ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم وكذا قال قتادة وزاد والتبس عليهم دينهم وعن علي رضي الله عنه قال له يهودي ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم فقال إنما اختلفنا عنه لا فيه ولكنكم ما جفت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيكم اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة وسئل بزرجمهر الحكيم : كيف اضطربت أمور آل ساسان وفيهم مثلك؟ قال : استعانوا بأصاغر العمال على أكابر الأعمال فآل أمرهم إلى ما آل.
كما قال الشيخ سعدي :
ندم اكر بشنوى اى ادشاه
درهمه دفتر به ازين ند نيست
جز بخر مند مفر ما عمل
كره عمل كار خردمند نيست


الصفحة التالية
Icon