صفحة رقم ١٢٦
وألبانها وكانت أحب الأطعمة إليه لله وإيثاراً لعباده - كما تقدم ذلك في البقرة عند
٧٧ ( ) فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ( ) ٧
[ البقرة : ٨٩ ] ولما كانت هذه الآية إلزاماً لليهود باعتقاد النسخ الذي طعنوا به في هذا الدين في أمر القبلة، وكانوا ينكرونه ليصير عذراً لهم في التخلف عن اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم، فكانوا يقولون : لم تزل الشحوم وما ذكر معها حراماً على من قبلنا كما كانت حراماً علينا، فأمر بجوابهم بأن قال :( قل ) أي لليهود ) فأتوا بالتوارة فاتلوها ) أي لتدل لكم ) إن كنتم صادقين ( فيما ادعيتموه، فلم يأتلوا بها فبان كذبهم فافتضحوا فضيحة لا مثل لها في الدنيا ) فمن ) أي فتسبب عن ذلك أنه من ) افترى ) أي تعمد ) على الله ) أي الملك الأعظم ) الكذب ) أي في أمر المطاعم أو غيرها.
ولما كان المراد النهي عن أيقاع الكذب في أي زمن كان، لا عن إيقاعه في جميع الزمان الذي بعد نزول الآية أثبت الجار فقال :( من بعد ذلك ) أي البيان العظيم الظاهر جداً ) فأولئك ) أي الأباعد الأباغض ) هم ( خاصة لتعمدهم الكذب على من هو محيط بهم ولا تخفى عليه خافية ) الظالمون ) أي المتناهو الظلم بالمشي على خلاف الدليل فعل من يمشي في الظلام، فهو لا يضع شيئاً في موضعه، وذلك بتعرضهم إلى أن يهتكهم التام العلم ويعذبهم الشامل القدرة.
ولما اضتح كذبهم وافتضح تدليسهم - لأنه لما استدل عليهم بكتابهم فلم يأتوا به صار ظاهراً كالشمس، لا شك فيه ولا لبس، ولم يزدهم ذلك إلا تمادياً في الكذب - أمر سبحانه وتعالى نبيه ( ﷺ ) بقوله :( قل ) أي لأهل الكتاب الذي أنكروا النسخ فأقمت عليهم الحجة من كتابهم ) صدق الله ) أي الملك الأعظم الذي له الكمال كله في جميع ما أخبر، وتخبر به عن ملة إبراهيم وغيره من بنيه أسلافكم، وتبين أنه ليس على دينكم هو ولا أحد ممن قبل موسى عليه الصلاة والسلام، لأنكم لو كنتم صادقين لأتيتم بالتوراة، نافياً بذلك أن يكون تأخرهم عن اإتيان بها لعلة يعتلون بها غير ذلك، وإذ قد تبين صدقه تعالى في جميع ما قال وجب اتباعه في كل ما يأمر به، وأعظمه ملة إبراهيم فإنها الجامعة للمحاسن.
ولما ثبت ذلك بهذا الدليل المحكم لزم قطعاً أنه ما كان يهودياً ولا نصرانياً ولا مشركاً، وقد أقروا بأن ملته هي الحق وأنهم أتباعه، فتسبب عن ذلك وجوب اتباعه فيما أخبر الله سبحانه وتعالى به فبان كالشمس صدقه، لا فيما افتروه هم من الكذب، فقال سبحانه وتعالى :( فاتبعوا ملة إبراهيم ( وهي الإسلام أي الانقياد للدليل، وهو معنى قوله :( حنيفاً ) أي تابعاً للحجة إذا تحررت، غير متقيد بمألوف.
ولما كان ( ﷺ ) مفطوراً.


الصفحة التالية
Icon