صفحة رقم ٥٠٨
ولما كان السياق لأن أكثرهم هالك، صرح به دالاً بالعطف على غير معطوف عليه أن التقدير : فليؤمنن به من أراد الله منهم، فقال :( وليزيدن كثيراً منهم ) أي ما عندهم من الكفر بما في كتابهم ) مآ أنزل إليك من ربك ( المحسن إليك بإنزاله ) طغياناً ( تجاوزاً شديداً للحد ) وكفراً ) أي ستراً لما دل عليه العقل.
ولما كان ( ﷺ ) شديد الشفقة على خلق الله، سلاّه في ذلك بقوله :( فلا ) أي فتسبب عن إعلام الله لك بذلك قبل وقوعه ثم عن وقوعه كما أخبر أن تعلم أنه بإرادته وقدرته، فقال لك : لا ) تأس ) أي تحزن ) على القوم الكافرين ) أي على فوات العريقين في الكفر لأنهم لم يضروا إلاّ أنفسهم لأن ربك العليم القدير لو علم فيهم خيراً لأقبل بهم إليك، والحاصل أنه ختم هذه الآية بمعلول الآية التي قبلها، فكأنه قبل : بلغ، فإن الله هو الهادي المضل، فلا تحزن على من أدبر.
ولما كان ما مضى في هذه السورة غالباً في فضائح أهل الكتاب لا سيما اليهود وبيان أنهم عضوا على الكفر، ومردوا على الجحد، وتمرنوا على البهت، وعتوا عن أوامر الله، كان ذلك موجباً لأنه ربما حدث في الخاطر أنه إن آمن منهم أحد ما يقبل، أو لأن يقولوا هم : ليس في دعائنا حينئذ فائدة فلا تدعنا، أخبر أن الباب مفتوح لهم ولغيرهم من جميع أهل الملل، وأنه ليس بين الإنسان وبين أن يكون من أهله إلا عدم الإخلاص، فإذا أخلص أذن في دخوله ونودي بقبوله، أو يقال - وهو أحسن : لما أخبر عن كثير منهم بالزيادة في الكفر، رغب القسم الآخر على وجه يعم غيرهم، أو يقال : إنه لما طال الكلام معهم.
كان ربما ظن أن الأمر ترغيباً وترهيباً وأمراً ونهياً خاص بهم، فوقع الإعلام بأنهم وغيرهم من جميع الفرق في ذلك سواء، تشريفاً لمقدار هذا النبي الكريم بعموم الدعوة وإحاطة الرسالة فقال سبحانه :( إن الذين آمنوا ) أي قالوا : آمنا ) والذين هادوا ) أي اليهود ) والصابئون ) أي القائلون بالأوثان السماوية والأصنام الأرضية ) والنصارى ) أي الذين يدعون اتباع المسيح عليه السلام.
ولما كان اليهود قد عبدوا الأصنام متقربين بها إلى النجوم في استنزال الروحانيات انهماكاً في السحر الذي جاء نبيهم موسى عليهم السلام بإبطاله، وكان ذلك هو معنى دين الصابئة، وفرّق بين فريقي بني إسرائيل بهم مكتفياَ بهم عن ذكر بقية المشركين لما مضى في البقرة، ولما سبق في هذه السورة من ذم اليهود بالنقض للميثاق والكفر واللعن والقسوة وتكرر الخيانة وإخفاء الكتاب والمسارعة في الكفر والنفاق والتخصيص بالكفر والظلم والفسق وغير ذلك من الطامات ما يسد الأسماع، كان قبول توبتهم جديراً بالإنكار، وكانوا هم ينكرون عناداً فلاح العرب من آمن منهم ومن لم يؤمن، فاقتضى