صفحة رقم ٥٤٧
الشرك، وأطيب الطيب الروحاني وأطيبه معرفة الله وطاعته، وما يكون للجسم من طيب أو خبث ظاهر لكل أحد، فما خالطه نجاسة صار مستقذراً لأرباب الطباع السليمة، وما خالط الأرواح من الجهل صار مستقذراً عند الأرواح الكاملة المقدسة، وما خالطه من الأرواح معرفةُ الله فواظب على خدمته أشرق بأنوار المعارف الإلهية وابتهج بالقرب من الأرواح المقدسة الطاهرة، وكما أن الخبيث والطيب لا يستويان في العالم الروحاني كذلك لا يستويان في العالم الجسماني، والتفاوت بينهما في العالم الروحاني أشد، لأن مضرة خبث الجسماني قليلة، ومنفعة طيبه يسيرة، وأما خبث الروحاني فمضرته عظيمة دائمة، وطيب الروحاني منفعته جليلة دائمة، وهي القرب من الله والانخرا في زمرة السعداء، وأدلّ دليل على إرادة العصاة والمطيعين قوله :( فاتقوا الله ) أي اجعلوا بينكم وبين ما يسخط الملك الأعظم الذي له صفات المال من الحرام وقايةً من الحلال لتكونوا من قسم الطيب، فإنه لا مقرب إلى الله مثلُ الانتهاء عما حرم - كما تقدم الإشارة بقوله :
٧٧ ( ) ثم اتقوا وأحسنوا ( ) ٧
[ المائدة : ٩٣ ] ويزيد المعنى وضوحاً قوله ) يا أولي الألباب ) أي العقول الخالصة من شوائب النفس فتؤثروا الطيب وإن قل في الحبس لكثرته في المعنى على الخبيث وإن كثر في الحس لنقصه في المعنى ) لعلكم تفلحون ) أي لتكونوا على رجاء من أن تفوزوا بجميع المطالب، وحينئذ ظهر كالشمس مناسبة تعقيبها بقوله على طريق الاستئناف والاستنتاج :( يا أيها الذين آمنوا ) أي أعطوا من أنفسهم العهد على الإيمان الذي معناه قبول جميع ما جاء به مَنْ وقع به الإيمان ) لا تسئلوا عن أشياء ( وذلك لأنهم إذا كانوا على خطر فيما يسرعون وفيما به ينتفعون من المآكل والمشارب وغيرها من الأقوال والأفعال فهم مثله فيما عنه يسألون سواء سألوا شرعه أو لا، لأنه ربما أجابهم من لا يضره شيء إلى ما فيه ضررهم مما سألوه، فإنهم لا يحسنون التفرقة بين الخبيث والطيب كما فعل بأهل السبت حيث أبوا الجمعة وسألوه، فاشتد اعتناقها حينئذ بقوله :
٧٧ ( ) إن الله يحكم ما يريد ( ) ٧
[ المائدة : ١ ] وبقوله :
٧٧ ( ) ما على الرسول إلا البلاغ ( ) ٧
[ المائدة : ٩٩ ] فكان كأنه قيل : فما بلغكم إياه فخذوه بقبول وحسن انقياد، وما لا فلا تسألوا عنه، وسببُ نزولها - كما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه ( أنهم سألوا النبي ( ﷺ ) حتى أحفوه بالمسألة، فغضب فصعد المنبر فقال :( لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم ( - وشرح يكرر ذلك، وإذ جاء رجل كان إذا لاحى الرجال يدعى لغير أبيه فقال : يا رسول الله من أبي ؟ قال : أبوك حذافة، ثم أنشأ عمر رضي الله عنه فقال : رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، نعوذ بالله من سوء الفتن.
وفي آخره : فنزلت ) يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم