صفحة رقم ٥٦
في الذل والذل في العز، والإيتاء في النزع والنزع في الإيتاء، وتوالج المفترقات المتقابلات بعضها في بعض، ولما كانت هذه السورة متضمنة لبيان الإحكام ولاتشابه في منزل الكتاب بحكم الفرقان أظهر تعالى في آياتها ما أحكم وبين في خلقه وأمره وما التبس وأولج في خلقه وأمره، فكان من محكم آية في الكائن القائم الآدمي ما تضمنه إيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال، وكان من الاشتباه إيلاج العز في الذل وإيلاج الذل في العز، فلما صرح بالإحكام ببيان الطرفين في الكائن لاقائم الآدمي، وضمن الخطاب اشتباهه في ذكر العز والذل صرح به في آية الكون الدائر، فذكر آية الآفاق وهو الليل والنهار بما يعاين فيها من التوالج حيث ظهر ذلك فهيا وخفي في توالج أحوال الكائن القائم، لأن الإحكام والاشتباه متراد بين الآيتين : آية الكائن القائم الآدمي وآية الكون الدائر العرشي، فما وقع اشتباهه في أحدهما ظهر إحكامه في الآخر فقال سبحانه وتعالى :( تولج ( من الولوج، وهو الدخول في الشيء الساتر لجملة الاخل ) الَّيل في النهار ( فيه تفصيل من مضاء قدرته، فهو سبحانه وتعالى يجعل كل واحد من المتقابلين بطانة للآخر والجاً فيه على وجه لا يصل إليه منال العقول لما في المعقول من افتراق المتقابلات، فكان في القدرة إيلاج المتقابلات بعضها في بعض وإيداع بعضها في بعض على وجه لا يتكيف بمعقول ولا ينال بفكر - انتهى.
) وتولج النهار في الَّيل ) أي تدخل كلاً منهما في الآخر بعد ظهوره حتى يذهب فيه فيخفى ولا يبقى له أثر.
قال الحرالي : ولما جعل المتعاقبين من الليل والنهار متوالجين جعل المتباطنين من الحي والميت مخرجين، فما ظهر فيه الموت بطنت فيه الحياة، وما ظهرت فيه الحياة بطن فيه الموت ؛ انتهى.
فقال سبحانه وتعالى :( وتخرج الحي ) أي من النبات والحيوان ) من الميت ( منهما ) وتخرج الميت ( منهما ) من الحي ( منهما كذلك.
قال الحرالي : فهذه سنة الله وتعالى وحكمته في الكائن القائم وفي الكون الدائر، فأما في الكون الدائر فبإخراج حي الشجر والنجم من موات البذر والعجم، وبظهوره في العيان كان أحكم فبي لابيان مما يقع في الكائن القائم، كذلك الكائن القائم يخرج الحي المؤمن الموقن من الميت الكافر الجاهل
٧٧ ( ) وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعده وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ( ) ٧
[ التوبة : ١٤ ] ويخرج الكافر الآبي من المؤمن الراحم
٧٧ ( ) يا نوح إنه ليس من أهلك ( ) ٧
[ هود : ٤٦ ] أظهر سبحانه وتعالى بذلك وجوه الإحكام والاشتباه في آيتي خلقه ليكون ذلك آية على ما في أمره، وليشف ذلك عما يظهر من أمر علمه وقدرته على من شاء من عباده كما أظهر في ملائكته وأنيبائه، وكما خصص بما شاء من إظهار عظيم أمره في المثلين الأعظمين : مثل آدم


الصفحة التالية
Icon