صفحة رقم ٥٦٢
) إنك أنت ) أي وحدك ) علام الغيوب ) أي كلها، تعلمها علماً تاماً فكيف بما غاب عنا من أحوال قومنا فكيف بالشهادة فكيف بما شهدنا من ذلك وهذا في موضع قولهم : أنت أعلم، لكن هذا أحسن أدباً، فإنهم محوا أنفسهم من ديوان العلم بالكلية، لأن كل علم يتلاشى إذا نسب إلى علمه ويضمحل مهما قرن بصفته أو اسمه.
ولما كان سؤاله سبحانه للرسل عن الإجابة متضمناً لتبكيت المبطلين وتوبيخهم، وكان أشد الأمم افتقاراً إلى التوبيخ أهل الكتاب، لأن تمردهم تعدى إلى رتبة الجلال بما وصفوه سبحانه به من اتخاذ الصاحبة والولد، ومن ادعاء الإلهية لعيسى عليه السلام لما أظهر من الخوارق التي دعا بها إلى الله مع اقترانها بما يدل على عبوديته ورسالته لئلا يهتضم حقه أو يُغلى فيه، مع مشاركتهم لغيرهم في أذى الرسل عليهم السلام بالتكذيب وغيره، وكان في الآية السالفة ذكر الآباء وما آثروا للأبناء، ذكر أمر عيسى عليه السلام بقوله مبدلاً من قوله :( يوم يجمع الله ( معبراً بالماضي تذكيراً بما لذلك اليوم من تحتم الوقوع، وتصويراً لعظيم تحققه، وتنبيهاً على أنه لقوة قربه كأنه قد وقع ومضى :( إذ قال الله ) أي المستجمع لصفات الكمال ) يا عيسى ( ثم بينه بما هو الحق من نسبه فقال :( ابن مريم (.
ولما كان ذلك يوم الجمع الأكبر والإحاطة بجميع الخلائق وأحوالهم في حركاتهم وسكناتهم، وكان الحمد هو الإحاطة بأوصاف الكمال، أمره بذكر حمده سبحانه على نعمته عنده فقال :( اذكر نعمتي عليك ) أي في خاصة نفسك، وذكر ما يدل للعاقل على أنه عبد مربوب فقال :( وعلى والدتك ( إلى آخره مشيراً إلى أنه أوجده من غير أب فأراحه مما يجب للآباء من الحقوق وما يورثون أبناءهم من اقتداء أو اهتداء وإقامة بحقوق أمه، فأقدره - وهو في المهد - على الشهادة لها بالبراءة والحصانة والعفاف، وكل نعمة أنعمها سبحانه عليه ( ﷺ ) فهي نعمة أمه ديناً ودنيا.
ولما ذكر سبحانه هذه الأمة المدعوة من العرب وأهل الكتاب وغيرهم بنعمه عليهم في أول السورة بقوله :
٧٧ ( ) اذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه ( ) ٧
[ المائدة : ٧ ]،
٧٧ ( ) واذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم ( ) ٧
[ المائدة : ١١ ]، وكانت هذه الآيات من عند
٧٧ ( ) لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ( ) ٧
[ المائدة : ٨٧ ] كلها في النعم، أخبرهم أنه يذكّر عيسى عليه السلام بنعمه في يوم الجمع إشارة إلى أنهم إن لم يذكروا نعمه في هذه الدار دار العمل بالشكر، ذكروها حين يذكّرهم بها في ذلك اليوم قسراً بالكفر، ويا لها فضيحةً في ذلك الجمع الأكبر والموقف الأهول وليتبصّر أهل الكتاب فيرجعوا عن كفرهم بعيسى عليه السلام : اليهودُ بالتقصير في أمره، والنصارى بالغلو في شأنه وقدره.


الصفحة التالية
Icon