صفحة رقم ٥٩٥
فهو ملك مطاع آمرناه مرسل من يبلغ عنه أوامره ونواهيه لإظهار ثمرة الملك من الثواب والعقاب في يوم الجمع :( ليجمعنكم ) أي والله محشورين شيئاً فشيئاً ) إلى يوم القيامة للعدل بين جميع العباد كائناً ) لا ريب فيه ) أي بوجه من الوجوه، وذلك الجمع لتخصيص الرحمة في ذلك اليوم بأوليائه والمقت والنقمة بأعدائه بعد أن كان عم بالرحمة الفريقين في يوم الدنيا، وجعل الرحمة أظهر في حق الأعداء، وبهذا الجمع تمت الرحمة من كثير من الخلق، ولولاه ارتفع الضبط وكثر الخبط كما كان في الجاهلية.
ولما كان ذلك كذلك في عدم الريب لإخبار الله به على ألسنة رسله ولما عليه من الأدلة لما في هذا الخلق من بدائع الحكم مع خروج أكثر أفعال الحيوان عن العدل، فصار من المعلوم لكل ذي وعي أن البعث محط الحكمة لإظهار التحلي بالصفات العلى لجميع الخلق : الشقي والسعيد القري والبعيد، كان كأنه قيل : فما لنا نرى أكثر الناس كافراً به، فقال جواباً :( الذين خسروا أنفسهم ) أي بإهلاكهم إياها بتكذيبهم به لمخالفة الفطرة الأولى التي تهدي الأخرس، وستر العقل السليم ) فهم ) أي بسبب خسارتهم لأنفسهم بإهمال العقل وإعمال الحواس والتقيد بالتقليد ) لا يؤمنون ( فصاروا كمن يلقي نفسه من شاهق ليموت لغرض من الأغراض الفاسدة، لا بسبب خفاء في أمر القيامة ولا لبس بوقع ربنا، وصار المعنى : إن الذين لا يؤمنون في هذا اليوم هم المقضي بخسارتهم في ذلك اليوم.
ولما استنارت الأدلة استنارة الشمس وانتصبت البراهين حتى لم يبق أصلاً نوع لبس، عم بالخبر عما تقدم مما يشاهدونه وغيره، فقال ذاكراً الزمان بعد المكان، وقدمه لأنه أظهر، والمعلم الكامل هو الذي يبدأ بالأظهر فالأظهر مترقياً إلى الأخفى فالأخفى، فتم بذلك الخبر عن الزمان والزمانيات والمكان والمكانيات :( وله ) أي وحده ) ما سكن ) أي حل وتحيز وحصل ) في الليل والنهار ) أي ما من شأنه أن يسكن فيهما وإن كان متحركاً، ولكنه عبر بذلك دون التحرك لأنها دار الموت، ودخل في ذلك النور والظلمة اللذان أشرك بهما من أشرك.
ولما دل ما مضى على القدرة التامة، وانقسم إلى متحرك وساكن، وكانت القدرة لا تتم إلا بالعلم، دل عليه بقوله :( وهو ) أي لا غيره ) السميع ) أي البالغ السمع لكل متحرك ) العليم ) أي العام العلم بالبصر والسمع وغيرهما بكل متحرك وبكل ساكن من أقوالكم وأفعالكم وغيرهما، فلا تطمعوا في أن يترك شيء من مجازاتكم، والعليم هنا أبلغ من البضير، وذلك مثل ما تقدم في قوله :
٧٧ ( ) قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله هو السميع العليم ( ) ٧
[ المائدة : ٧٦ ] وهو ترجمة قوله :
٧٧ ( ) يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ( ) ٧
[ الأنعام : ٣ ].


الصفحة التالية
Icon