صفحة رقم ٧١
ولما أخبر بما اقتضى مضى عزمها قبل الوضع أخبر بتحقيقه بعده فقال :( فلما وضعتها قالت ) أي تحسراً ذاكرة وصف الإحسان استمطاراً للامتنان ) رب إني وضعتها ( قال الحرالي : من الوضع وهو إلقاء الشيء المستثقل ) أنثى ( هي أدنى زوجي الحيوان المتناكح - انتهى.
ولما كان الإخبار عادة إنما هو لمن لا يعلم الخبر بينت أن أمر الله سبحانه وتعالى ليس كذلك، لأن المقصود بإخباره ليس مضمون الخبر وإنام هو شيء من لوازمه وهنا التحسر فقالت :( والله ) أي الذي له صفات الكمال.
ولما كان المراد التعجيب من هذه المولودة بأنها من خوارق العادات عبرت عنها بما فقالت :( أعلم بما وضعت ( وعبرت بالاسم الأعظم موضع ضمير الخطاب إشارة إلى السؤال في أن يهبها من كماله ويرزقها من هيبته وجلاله، وفي قراءة إسكان التاء الذي هو إخبار من الله سبحانه وتعالى عنها - كما قال الحرالي - إلاحة معنى أن مريم عليها الصلاة والسلام وإن كان ظاهرها الأنوثة ففيها حقيقة المعنى الذي ألحقها بالرجال في الكمال، حتى كانت ممن كانت ممن كمل من النساء لما لا يصل إليه كثير من رجال عالمها، فكان في إشعاره أن الموضوع كان ظاهره ذكراً وحقيقته أنثى.
ولما كان مقصودها مع إمضاء نذرها بعد تحقق كوناه أنثى التحسر على ما فاتها من الأجر في خدمة البيت المقدس بما يقابل فضل قوة الذكر على الأنثى وصلاحيته للخدمة في كل أ ؛ واله قالت :( وليس الذكر ) أي الذي هو معتاد للنذر وكنت أحب أن تهبه لي لأفوز بمثل أجره في هذا الفرض في قوته وسلامته من العوارض المانعة من المكث في المسجد ومخالطة القومة ) كالأنثى ( التي وضعتها، وهي داخلة في عموم النذر بحكم الإطلاق في الضعف وعارض الحيض ونحوه فلا ينقص يا رب أجري بسبب ذلك، ولو قالت : وليست الأنثى كالذكر، لفهم أن مرادها أن نذرها لم يشملها فلا حق للمسجد فيها من جهة الخدمة.
قال الحرالي : وفي إشعار هذا القول تفصل مما تتخوفه أن لا يكون ما وضعته كفافاً لنذرها، لما شهدت من ظاهر أنوثة ما وضعت، فجعلها الله سبحانه وتعالى لها أكمل مما اشتملت عليه عزيمتها من رتبة الذكورة التي كانت تعهدها، فكانت مريم عليها السلام أتم من معهود نذرها مزيد فضل من ربها عليها بعد وفاء حقيقة مقصودها في نذرها - انتهى.
ويجوز أن يكون هذا من كلام الله سبحانه وتعالى كالحالية التي قبله إذا أسكنت التاء، ولاتقدير : قالت كذا والحال أن الله أعلم منها بما وضعت، والحال أيضاً أنه ليس الذكر الذي أرادته بحكم معتاد النذر كالأنثى التي وهبت لها فدخلت فيه بحكم إطلاقه، بل هي أعلى، لأن غاية ما تعرفه من المنذورين أن يكون كأنبيائهم المقررين