صفحة رقم ١٠٩
ممكن فقال - :( فإن استقر مكانه ) أي وجد قراره وجوداً تاماً، واشار إلى بعد الرؤية أاايضاً وجلالة المطلوب منها بقوله :( فسوف تراني ) أي بوعد لا خلف فيه ) فلما تجلى ربه ) أي المحسن إليه بكل عطاء ومنع وبين بتعبيره باللام أنه تجلى قربه وخصوصيته، ولو عبر بعلى مثلاً لكان أمر آخر فقال - :( للجبل ) أي بأن كشف للجبل عما شاء من حجب عظمته ) جعله دكاً ) أي مدكوكاً، والدك والدق أخوان ) وخر ) أي وقع ) موسى صعقاً ) أي مغشياً عليه مع صوت هائل، فعلم أن معنى الاستدراك أنك لن تثبت لرؤيتي في هذه الدار ولا تعرف ذلك الآن، ولكنك تعرفه بمثال أريكة وهوالجبل، فإن الفاني - كما نقل عن الإمام مالم - لا ينبغي له أن يرى الباقي - ) فلما أفاق ) أي من غشيته ) قال سبحانك ) أي تنزيهاً لك عن أن أطلب منك ما لم تأذن فيه ) تبت إليك ) أي من ذلك ) وانا أول المؤمنين ) أي مبادر غاية المبادرة إلى الإيمان بكل ما أخبرت به كل ما تضمنته هذه الآيات، فتعبيره بالإيمان في غاية المناسبة لعدم الرؤية لأن شرط الإيمان أن يكون بالغيب، فقد ورد في نبينا ( ﷺ ) آيتان : إحدهما يمكن أن تشير إلى الرؤية بالتعبير بالمسلمين دون المؤمنين في قوله ) وأنا أول المسلمين ) [ المائدة : ١٦٣ ] والثانية تومي إلى عدمها وهي ) آمن الرسول ) [ البقرة : ٢٨٥ ] إلى قوله :( كل آمن بالله ) [ البقرة : ٢٨٥ ] - والله أعلم -، وكل هذا تكيت على قومه وتبكيت لهم في عبادتهم العجل وردع لهم عن ذلك، وتنبيه لهم على ان الإلهية مقرونة بالعظمة والكبر بعيدة جداً عن ذوي الجسام لما يعلم سبحانه من انهم سيكررون عبادة الأصنام، فاثبت للإله الحق الكلام والتردي عن الرؤية بحجاب الكبر والعظمة واندكاك الجبل عند تجليه ونصب الشرع الهادي إلى أقوم تعريضاً بالعجل، وإلى ذلك يرشد قوله تعالى :( ألم يروا انه لا يكلمهم ( الآية.
ولما منعه الرؤية بعد طلبه إياها، وقابل ذلك بمحاسن الأفعال والأقوال، تشوف السامع إلى ما قوبل به من الإكرام، فاستأنف سبحانه الإخبار بما منحه به تسلية له عما منعه وأمراً بشكره بقوله :( قال ياموسى ( مذكراً له نعمة في سياق دال على عظيم قدرها وإيجاب شكرها مسقطاً عنه مظهر العظمة تأنيساً له ورفقاً به - ) إني اصطفيتك ) أي اخترتك اختياراً بالغاً كما يختار ما يصفى من الشيء عن كل دنس ) على الناس ) أي الذين في زمانك ) رسالتي ) أي الآيات المستكثرة التي أظهرنها على يديك من اسفار التوارة وغيرها ) وبكلامي ) أي من غير واسطة وكانه أعاد حرف الجر للتنبيه على ذلك، كما اصطفى محمداً ( ﷺ ) على الناس عامة في كل زمان برسالته العامة وبكلامه المعجز ويتكلمه من غير واسطة في السماء التي قدست دائماً ونزهتت عن التدنيس بمعصية.