صفحة رقم ٣١٨
وشرف ما أعرضوا عنه ترغيباً منبهاً على أن ترك الخير الكثير لأجل الشر اليسير شر عظيم منكراً على من تثاقل موبخاً لهم :( أرضيتم بالحياة النيا ( اي بالخفض والدعة في الدار الدنية الغارة ) من الآخرة ) أي الفاخرة الباقية ؛ قال أبو حيان : و ( من ) تظافرت اقوال المفسرين انها بمعنى بدل، وأصحابنا لا يثبتون أن من تكون للبدل - انتهى.
والذي يظهر لي أنهم لم يريدوا أنها موضوعة للبدل، بل إنه يطلق عليها لما قد يلزمها في مثل هذه العبارة من ترك ما بعدها لما قبلها فإنها لا بتداء الغاية، فإذا قلت : رضيت بكذا من زيد، كان المعنى أنك اخذت ذلك أخذاً مبتدئاً منه غير ملتفت إلى ما عداه، فكأنك جعلت ذلك بدل كل شيء يقدر أنه ينالك منه من غير ذلك الماخوذ.
ولما كانوا قد أعطوا الآخرة على الأتباع فاستبدلوا به الامتناع، كان إقبالهم على الدنيا كانه مبتدئ مما كانواقد توطنوه من الآخرة مع الإعراض عنها، فكأنه قيل : أرضيتم بالميل إلى الدنيا من الاخرة ؟ ويؤيد ما فهمته ان العلامة علم الدين أبا محمد القاسم بن الموفق الأندلسي ذكر في شرح الجزولية انهم عدوا ل ) من ( خمسة معان كلها ترجع إلى ابتداء الغاية عند المحققين، وبين كيفية ذلك حتى البيانة، فمعنى
٧٧ ( ) فاجتنبوا الرجس من الأوثان ( ) ٧
[ الحج : ٣٠ ] الذي ابتداؤه من الأوثان، لأن الرجس جامع للأوثان وغيرها.
ولما كان الاستفهام إنكارياً كان معناه النهي، فكان تقدير : لا ترضوا بها فإن ذلك أسفه رأي وأفسده فقال تعالى معللاً لهذا النهي :( فما ( اي بسبب أنه ما ) متاع الحياة الدنيا في ) أي مغموراً في جنب ) الآخرة إلا قليلاً ( والذي يندب هم المتجر ويدعي البصر به ويحاذر الخلل فيه يعد فاعل ذلك سفيهاً.
ولما كان طول الاستعطاف ربما كان مدعاة للخلاف وترك الإنصاف، وتوعدهم بقوله :( إلا تنفروا ) أي فب سبيله ) عذاباً اليماً ) أي في الدارين ) ويستبدل ) أي يوجد بدلاً منكم ) قوماً غيركم ) أي ذوي بأس ونجدة مخالفين لكم في الخلال التي كانت سبباً للاستبدال لولايته ونصر دينه.
ولما هددهم بما يضرهم، أخبرهم انهم لا يضرون بفتورهم غير انفسهم فقال :( ولا تضروه ) أي الله ورسوله ) شيئاً ( لأنه متم امره ومنجر وعده ومظهر دينه ؛ ولما اثبت بذلك قدرته على ضره لهم وقصورهم عن الوصول غلى ضره، كان التقدير : لأنه قادر على نصر دينه ونبيه بغيركم، فعطف عليه تعميماً لقدرته ترهيباً من عظيم سطوته قوله :( والله ) أي الملك الذي له الإحاطة الكاملة ) على كل شيء قدير ( ولما وصف سبحانه نفسه الأقدس بما هو له أهل من شمول القدرة وعظيم البأس والقوة، أتبع ذلك بدليل يتضمن أن المستنفر لهم - وهو نبيه ( ﷺ ) - غير محتاج إليه