صفحة رقم ١٤١
التمتع الحاضر، فهذا تقسيم حاصر لأنواع الفلز المنوه إليها مع إظهار التهاون به وإن تنافس الناس فيه كما هو شأن الملوك يظهرون المجد والفخار بالاستهانة بما يتنافس الناس فيه ) زبد مثله ) أي مثل زبد الماء يكشط عن وجهه أو يعلق بأطراف الإناء فيذهب ويبقى ذلك الجوهر خالصاً كالحق إذا زالت عنه الشكوك وانزاحت الشبه.
ولما كان هذا في غاية الحسن والانطباق على المقصود، كان سامعه جديراً بأن يهتز فيقول : هذا مما لا يقدر على سوقه هكذا إلا الله تعالى، فيا له من مثل فأجيب قوله :( كذلك ) أي مثل هذا الضرب، لعلى الرتب، الغريب العجب، المتين السبب ) يضرب الله ) أي الذي له الأمر كله ) الحق والباطل ) أي مثلهما ؛ وضرب المثل : تسييره في البلاد يتمثل به الناس.
ولما نبه بهذا الفصل على علو رتبه هذا المثل، شرع في شرحه، فقال مبتدئاً بما هو الأهم في هذا المقام، وهو إبطال الباطل الذي أضلهم، وهو في تقسيمه على طريق النشر المشوش، فقال :( فأما الزبد ) أي الذي هو مثل للباطل المطلق ) فيذهب ( متعلقاً بالاشجار وجوانب الأودية لأنه يطفو بخفته ويعلق بالأشياء الكثيفة بكثافته ) جفاء ( قال أبو حيان : أي مضمحلاً متلاشياً لا منفعة فيه لا بقاء له ؛ وقال ابن الأنباري : متفرقاً، من جفأت الريح الغيم - إذا قطعته، وجفأت الرجل : صرعته - انتهى.
فهذا مثل الباطل من الشكوك والشبه وما أثاره أهل العناد، لا بقاء له وإن جال جولة - يمتحن الله بها عباده ليظهر الثابت من المزلزل - ثم ينمحق سريعاً ؛ وقال الرماني : والجفاء : بنوّ مكان الشيء به حتى يهلك ) وأما ما ينفع الناس ( من الماء والفلزالذي هو مثل الحق ) فيمكث في الأرض ( ينتفع الناس بالماء الذي به حياة كل شيء، والفلز الذي به التمام، فالماء والمعدن مثل القرآن لما فيه من حياة القلوب وبقاء الشرع كما أن الماء يحيى الأراضي الميتة، والمعادن تحيي موات العيش وتنظم المعاملات المقتضية لاختلاط بعض الناس ببعض وائتلافهم بالحاجة، والأودية والأواني مثل القلوب يثبت منه فيها ما تحتمله على قدر سعة القلب وضيقه بحسب الطهارة وقوة الفاهمة.
ولما انقضى هذا المثل على هذا البيان الذي يعجز دونه الثقلان، لأنه أحسن شيء معنى بأوجرعبارة وأوضح دلالة، كان كأنه قيل : هل يتبين كل شيء هذا البيان ؟ فقيل : نعم، ) كذلك ) أي مثل ذلك الضرب ) يضرب الله ) أي الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة ) الأمثال ( فيجعلها في غاية الوضوح وإن كانت في غاية الغموض.


الصفحة التالية
Icon