صفحة رقم ١٧٩
ضرب لهم في ذلك مثلاً فقال :( مثل ( وهو مستعار هنا للصفة التي فيها غرابة ) الذين كفروا ( مستهينن ) بربهم ( مثل من قصد أمراً ثم لم ينظر لنفسه في السلوك إليه بل اغتر بمن جار به عن الطريق، فأبعد كل البعد حتى وصل إلى شعاب لا يمكن فيها المقام، ولا يتأتى منها الرجوع فهلك ضياعاً.
ولما كان الفرق بين الإنسان والعدم إنما هو بالعملن ذكر ما علم منه أن المثل لأعمالهم على طريق الجواب لمن كأنه قال : ما مثلهم ؟ فقال :( أعمالهم ) أي المكارم التي كانوا يعلمونها في الدنيا من الصلة والعتق وفداء الأسرى والجود ونحو ذلك، في يوم الجزاء، ويجوز أن يكون مبتدأ ثانياً - كما قال الحوفي وابن عطية.
وهو وخبره خبر المبتدأ الأول، ولا يحتاج إلى رابط لأنه نفس المثل الذي معناه الصفة ) كرماد ( وهو ما سحقه الاحتراق سحق الغبار ) اشتدت به الريح ) أي أسرعت بالحركة على عظم القوة ؛ والريح : جسم رقيق مثبت في الجو من شأنه الهبوب، والرياح خمس : شمال وجنوب وصباً ودبور ونكباء ) في يوم عاصف ) أي شديد الريح، فأطارته في كل صوب، فصاروا بحيث ) لا يقدرون ) أي يوم الجزاء ؛ ولما كان الأمر هنا متمحصاً للأعمال، قدم قوله :( مما كسبوا ( في الدنيا من أعمالهم في ذلك اليوم ) على شيء ( بل ذهب هباء منثوراً لبنائه على غير أساس، فثبت مقتضى ذلك أن الذين كفروا بربهم واستحبوا الحياة الدنيا على الآخرة في ضلال بعيد، بل ) ذلك ) أي الأمر الشديد الشناعة ) هو ) أي خاصة ) الضلال البعيد ( الذي لا يقدر صاحبه على تداركه.
إبراهيم :( ١٩ - ٢١ ) ألم تر أن.....
) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ( ( )
ولما ذكرالآخرة في أول السورة، ذكر ما هو ثابت لا نزاع فيه، ثم جرّ الكلام إليه هنا على هذا الوجه الغريب، وأتبعه مثل أعمال الكفار في الآخرة، أتبع ذلك الدليل عليه وعلى أنه لا يسوغ في الحكمة في أعمال الضلال إلا الإبطال فقال :( ألم تر أن الله ) أي الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة ) خلق السماوات ( على عظمها وارتفاعها ) والأرض ( على تباعد أقطارها واتساعها ) بالحق ( بالأمر الثابت من وضع كل شيء منها في موضعه على ما تدعوا إليه الحكمة لا بالخيالوالتمويه كالسحر، ومن المعلوم أنهما ظرف، ولايكون المظروف الذي هو المقصود بالذات إلا مثل ظرفه أو أعلى منه،