صفحة رقم ٢٤
ولما كانت العادة جارية بأن القن يمتهن، أخبر تعالى أنه أكرمه عن هذه العادة فقال منبهاً على أن شراءه كان بمصر :( وقال الذي اشتراه ) أي أخذه برغبة عظيمة، ولو توقفوا عليه غالى في ثمنه ) من مصر ) أي البلدة المعروفة، والتعبير بهذا دون ما هو أخصر منه للتنبيه على أن بيعه ظلم، وأنه لم يدخل في ملك أحد أصلاً ) لامرأته ( آمراً لها بإكرامه على أبلغ وجه ) أكرمي مثواه ) أي موضع مقامه، وذلك أعظم من الأمر بإكرامه نفسه، فالمعنى : أكرميه إكراماً عظيماً بحيث يكون ممن يكرم كل ما لابسه لأجله، ليرغب في المقام عندنا.
ولما كانت كأنها قالت : ما سبب إيصائك لي بهذا دون غيره ؟ استأنف قوله :( عسى أن ) أي أن حاله خليق وجدير بأن ) ينفعنا ) أي وهو على اسم المشتري ) أو نتخذه ) أي برغبة عظيمة إن رأيناه أهلاً ) ولداً ( فأنا طامع في ذلك ولما أخبرتعالى بمبدأ أمره، وكان من المعلوم أن هذا إنما هو لما مكن له في القلوب مما أوجب توقيره وإجلاله وتعظيمه، أخبر تعالى بمنتهى أمره، مشبهاً له بهذا المضمون المعلم به فقال :( وكذلك ) أي مثل ما مكنا ليوسف بتزهيد السيارة : أهل البدو تارة، وإكرام مشتريه ومنافسته فيه أخرى ) مكنا ليوسف في الأرض ) أي أرض مصر التي هي كالأرض كلها لكثرة منافعها بالملك فيها لتمكنه من الحكم بالعدل ) و ( بالنبوة ) لنعلمه ( بما لنا من العظمة ) من تأويل الأحاديث ) أي بترجيعها من ظواهرها إلى بواطنها، فأشار تعالى إلى المشبه به مع عدم التصريح به لما دل عليه من السياق، وأثبت التمكين في الأرض ليدل على لازمه من الملك والتمكين من العدل، وذكر التعليم ليدل على ملزومه وهو النبوة، فدل أولاً بالملزوم على اللازم، وثانياً باللازم على الملزوم، وهو كقوله تعالى :
٧٧ ( ) فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ( ) ٧
[ آل عمران : ١٣ ] فهو احتباك أو قريب منه.
ولما كان من أعجب العجب أن من وقع له التمكين من أن يفعل به مثل هذه الأفعال يتمكن من أرض هو فيها مع كونه غريباً مستبعداً فرداً لا عشيرة له فيها ولا أعوان، قال تعالى نافياً لهذا العجب :( والله ) أي الملك الأعظم ) غالب على أمره ) أي الأمر الذي يريده، غلبه ظاهر أمرها لكل من له بصيرة : أمر يعقوب يوسف عليهما الصلاة والسلام أن لا يقص رؤيا حذراً عليه من إخوته، فغلب أمره سبحانه حتى وقع ما حذره، فأراد إخوته قتله فغلب أمره عليهم، وأرادوا أن يلتقطه بعض السيارة ليندرس اسمه فغلب أمره سبحانه وظهراسمه واشتهر، ثم باعوه ليكون مملوكاً فغلب أمره تعالى حتى صار ملكاً وسجدوا بين يديه، ثم أرادوا أن يغيروا أباهم ويطيّبوا قلبه حتى يخلو لهم وجهه فغلب أمره تعالى فأظهره على مكرهم، واحتالت عليه امراة العزيز لتخدعه عن