صفحة رقم ٣٥٨
الأربع، فخرج إليهم الخوارج فقاتلوهم قتالاً شديداً، وقتلوا من الروم خلقاً كثيراً، وكانوا قد ندبوا أربعة من أشدائهم لإحراق الكباش إذا اشتغلوا بالقتال، ولم يزالوا يقاتلونهم حتى تم لهم ما أرادوا وأحرقوا الكباش وجميع آلاتها، ونظر الروم من شجاعة اليهود وبأسهم ما هالهم فانهزموا، فردهم طيطوس وجعل يشجعهم وقال : أما تأنفون أن يغلبكم اليهود بعد أن استظهرنا عليهم، وهدمنا سورين من أسوار المدينة، ولم يبق غير سور واجد، وقد هلك أكثرهم وليس لهم من ينصرهم، ونحن فعساكرنا متوافرة، ومعنا أمم كثيرة تعيننا عليهم، ثم أمرهم أن يتركوا قتالهم حتى يهلكوا من الجوع، فضبطوا جميع طرق المدينة، فضاق الأمر بهم جداً واشتد الجوع، ولم يكن أحد يقدر أن يطحن قمحاً لئلا ينهب، ولا يخبر لئلا يفضحه الدخان، فكان من عنده شيء يستفّون القمح والدقيق، فمات كثير من الناس، واشتغل الأحياء بأنفسهمن فما كانوا يدفنون موتاهم، وكان الحي ربما أخذ ميته فألقاه في بئر ثم يلقي نفسه بعده ليموت، وكان بعضهم يحفر له قراً ثم يضطجع فيه حتى يموت، وامتلأت الشوارع بالموتى، فكان الخوارج يلقونهم من السور إلى الوادي الشرقي، فلما رآهم طيطوس اغتنم ورق لهم، وكان ببيت المقدس امرأة من أهل النعم، أصلها من مدينة في حيرة الأردن، فلما كثرت الفتن هناك انتقلت في جملة من انتقل إلى بيت المقدس بجميع عبيدها وسائر نعمتها، ولم يكن لها غير ابن واحد صغير وهي تحبه حباً شديداً، فلما قويت المجاعة، ونهب الخوارج جميع ما عندها، اشتد بها الأمر وكان ابنها تضور من الجوع، فلما زاد بها الجوع وما يؤلم قلبها من تضور ابنها، ارادت قتل ابنها لتأكله، فبقيت حائرة لا تدري على أي الأمرين تحمل نفسها، هل تقتل ولدها العزيز عليها بيدها، وذلك من أعظم الأمور وأشنعها، أم تصبر على ما تراه به وبنفسها من البلاء وقد فارقها الصبر وعدمت الجلد، ثم زاد بها الدوع فزال عنها التمييز فقالت : يا ابني وواحدي قد كنت آمل أن تعيش حتى تبرني، وكنت أخاف أن تموت قبلي فأفجع بموتك، فيا ليتني كنت قد ثكلتك فدفنتك واحتسبتك عند الله، والآن يا ولدي فقد أحاط بنا المكروه وأيقنا بالهلاك، فالحي لا يرجو الحياة والميت لا يدفن، وأنا وأنت هالكان، وإن مت يا بني لم يدفنك أحد وكنت كغيرك ممن أكلته الكلاب وطيور السماء، وقد رأيت أن أقتلك لتستريح مما أنت فيه ثم آكلك فأجلع بطني التي حملتك فيها قبراً لك، وأسد بك جوعي، فيكون ذلك عوض برك بي الذي كنت أرجوه، وتناف بذلك الأجر العظيم، ويكون ذلك عاراً على هؤلاء الخوارج الذي أوقعونا في هذا البلاء، وزيادة في سخط الله عليهم، ويذكر ذلك على ممر الدهر،


الصفحة التالية
Icon