صفحة رقم ٣٧
ولما كانت هذه الأمور موجبة لرفعته، فكان حينئذٍ أبعد شيء عن السجن لو كان الناس متمكنين من جري أمورهم على حسب السديد من عقولهم، أخبر تعالى أنهم خالفوا داعي السداد واستبدلوا الغيّ بالرشاد، لحكمه بأن السجن سبب عظيم لصرف كيدهن عنه وإثبات العز والمكنة له، ففعلوا - مع علمهم بأن ذلك ظلم وسفه - إجابة لغالب أمر الله وإظهار لعليّ قدرة بمخالفة العوائد مرة بعد مرة، وهدم سداد الأسباب كرة أثر كرة ؛ فقال :( ثم ( لهذا المعنى، وهو أنهم كان ينبغي أن يكونوا من سجنه في غاية البعد ) بدا ) أي ظهربعد الخفاء كما هي عادتهم ) لهم ( والبداء في الرأي : التلون فيه لظهور ما لم يكن ظهر منه.
ولما كان ذلك الظهور في حين من الدهرتلونوا بعده إلى رأي آخر، أدخل الجار ما ظهر له المانع منه :( ليسجننه ( فيمكث في السجن ) حتى حين ) أي إلى أن تنسى تلك الإشاعة، ويظهر الناس أنها لو كانت تحبه ما سعت في سجنه، وقيل : إن ذلك الحين سبع سنين، قيل : كان سبب ذلك أنها قالت للعزيز : إن هذا قد فضحني في الناس وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر كما يحب، وأنا محبوسة، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر كما يعتذر، وإما أن تسويه بي في السجن ؛ قال أبو حيان : قال ابن عباس رضي الله عنهما : فأمر به فحمل على حمار وضرب أمامه بالطبل، ونودي عليه في أسواق مصر أن يوسف العبراني أراد سيدتهن فهذا جزاءه أن يسجن قال أبو صالح : ما ذكر ابن عباس رضي الله عنهما هذا الحديث إلاّ بكى - انتهى.
وهذا دليل على قوله
٧٧ ( ) إن كيدكن عظيم ( ) ٧
[ يوسف : ٢٨ ].
قال الإمام فخر الدين الرازي في كتاب اللوامع : وعلى الجملة فكل أحوال يوسف عليه الصلاة والسلام لطف في عنف، ونعمة في طي بلية ونقمة، ويسر في عسر، ورجاء في يأس، وخلاص بعد لات مناص، وسائق القدر ربما يسوق القدر إلى المقدور بعنف، وربما يسوقه بلطف، والقهرو العنف أحمد عاقبة وأقل تبعة - انتهى.
ولما ذكر السجن، وكان سبباً ظاهراً في الإهانة، شرع سبحانه يقص من أمره فيه ما حاصله أنه سبب الكرامة، كل ذلك بياناً للغلبة على الأمر والاتصاف بصفات القهر، مع ما في ذلك من بيان تحقق ما تقدم به الوعد الوفي ليوسف عليه الصلاة والسلام وغير ذلك من الحكم، فقال تعالى :( ودخل ) أي فسجنوه كما بدا لهم ودخل


الصفحة التالية
Icon