صفحة رقم ٥٤٧
ولما كان من شأن الوعود الغائبة - على ما يتعارفه الناس بينهم - احتمال عدم الوقوع، بين أن وعده ليس كذلك بقوله :( إنه كان ) أي كوناً هو سنة ماضية ) وعده مأتيّاً ) أي مقصوداً بالفعل، فلا بد من وقوعه، فهو كقوله تعالى
٧٧ ( ) إن كان وعد ربنا لمفعولاً ( ) ٧
[ الإسراء : ١٠٨ ].
ولما كانت الجنة دار الحق، وكان أنكأ شيء لذوي الأقدار الباطل، وكان أقل ما ينكأ منه سماعه، نفى ذلك عنها أبلغ وجه فقال :( لا يسمعون فيها لغواً ) أي شيئاً ما من الباطل الذي لا ثمرة له.
ولما كانت السلامة ضد الباطل من كل وجه، قال :( إلا ) أي لكن ) سلاماً ( لا عطب معه ولا عيب ولا نقص أصلاً فيه، وأورد على صورة الاستثناء من باب قول الشاعر :
ولا عيب فيهم غير ان سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
ويحسن أن يراد باللغو مطلق الكلام ؛ قال في القاموس : لغا لغواًك تكلم.
أي لا يسمعون فيها كلاماً إلا كلاماً يدل على السلامة، ولا يسمعون شيئاً يدل على عطب أحد منهم ولا عطب شيء فيها.
ولما كان الرزق من أسباب السلامة قال :( ولهم رزقهم ) أي على قدر ما يتمنونه ويشتهونه على وجه لا بد من إتيانه ولا كلفة عليهم فيه ولا يمن عليهم به ) فيها بكرة وعشياً ) أي دواماً، لا يحتاجون إلى طلبه في وقت من الأوقات، وفي تفسير عبد الرزاق عن مجاهد : وليس فيها بكرة ولا عشي، لكنهم يؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا.
أي أنهم خوطبوا بما يعرفون كما أشار إليه تأخير الظرف إذ لو قدم لأوهم بعدهم عن ذلك بالجنة.
ولما باينت بهذه الأوصاف دار الباطل، أشار إلى علو رتبتها وما هو سببها بقوله :( تلك الجنة ( بأداة البعد لعلو قدرها، وعظم أمرها ) التي نورث ) أي نعطي عطاء الإرث الذي لا نكد فيه من حين التأهل له بالموت ولا كد ولا استرجاع ) من عبادنا ( الذين أخلصناهم لنا، فخلصوا عن الشرك نية وعملاً ) من كان ) أي جبلة وطبعاً ) تقياً ) أي مبالغاً في التقوى، فهو في غاية الخوف منا لاستحضاره أنه عبد ؛ قال الرازي في اللوامع : وما تقرب أحد إلى ربه بشيء أزين عليه من ملازمة العبودية وإظهار الافتقار، والعبد يكون ذليلاً بأوصافه، عزيزاً بأوصاف الحق تعالى - انتهى.
وذلك إشارة إلى سبب إيراثها التقوى.
ولما كرر سبحانه الوصف بالتقى في هذه السورة ثلاث مرات، وختمه بأنه سبب


الصفحة التالية
Icon