صفحة رقم ٧٤
على ما أمر به شفقة عليهم ) قضاها ( يعقوب، وأبرزها من نفسه إلى أولاده، فعملوا فيها بمراده فأغنى عنهم ذلك الإخلاص من عقوق أبيهم فقط، فإنهم ابتلوا في هذه السفرة بأمر عظيم لم يجدوا منه خلاصاً، وهو نسبهم إلى السرقة، وأسر أخيهم منهم، قال أبو حيان : وفيه حجة لمن زعم أن ( لما ) حرف وجوب لوجوب، لا ظرف زمان بمعنى ( حين )، إذا لو كان ظرف زمان ما جاز أن يكون معمولاً لما ( بعد ) ما النافية - انتهى.
ولما كان ذلك ربما أوهم أنه لا فائدة في الاحيتاط، أشار تعالى إلى رده بمدح يعقوب عليه الصلاة والسلام، حثاً على الاقتداء به في التسبب مع اعتقاده أن الأمر بيد الله فقال :( وإنه ) أي يعقوب عليه الصلاة والسلام مع أمره لبنيه بذلك ) لذو علم ) أي معرفة بالحكمين : حكم التكليف، وحكم التقدير، واطلاع على الكونين عظيم ) لما ) أي للذين ) علمناه ( إياه من أصول الدين وفروعه، ويجوز أن يكون المعنى : لذو علم لأجل تعليمنا أياه.
فاقتدوا به في الاحتياط في تعاطي الأسباب، مع اعتقاد أنه لا أثر لها إلا أن أمضاها الواحد القهار، فبهذا التقدير يتبين أن الاستثناء متصل، وفائدة إبرازه - في صورة الأستثناء عند من جعله منقطعاً - الإشارة إلى تعظيم يعقوب عليه الصلاة والسلام، وأنه جدير بأن يكون ما يأمر به مغنياً، لأنه من أمر الله، فلو كان كل شيء يغني من قدر الله لأغنى ما أشار به، وإنما فسرت ( يغنى ) ب ( يدفع ) لأن مادة ( غنى ) - بأي ترتيب كان - تدور على الإقامة، فيكون أغنى للسلب، وهو معنى للدفع، بيانه أن غنى بمعنى أقام، وعاش، ولقي، ومغنى الدار : موضع الحلول، ويلزم من الإقامة الكفاية والتمول، لأن الفقير منزعج مضطرب، والغني - كإلى : التزوج، وإذا فتح مد، والاسم الغنية - بالضم، وذلك لأن التزوج الإقامة، والغانية : المرأة تُطلَب ولا تَطلُب، أو الغنية بحسنها عن الزينة، أو الشابة المتزوجة، أو الشابة العفيفة ذات زوج كانت أم لا، ومثلها يلزم المنزل ويقصر في الخيام، وأغنى عنه غناء فلان : ناب عنه منابه وأجزأ مجزأه، وحقيقته جعل إقامة كذا متجاوزة عنه، فالمفعول محذوف، فإذا قال مثلاً : فلان أغنى عني في الحرب، كان المعنى : أغنى عني ضرب الأبطال أو شدة الحرب، أي أزال إقامة ذلك عني فجعله متجاوزاً، ولا شك أن معنى ذلك : دفعه عني، وكذا كل ما كان من ذلك، وما فيه غناء ذاك، أي إقامته والاضطلاع به، ويلزم أيضاً - من الإقامة التي هي المدار والكفاية التي هي سببها - الغناءُ - بالكسر والمد، وهو التطريب بالصوت، والغناء أيضاً : الرمل - لإقامته، وغنى بالمرأة : تغزل، أي نظم فيها الغزل، وغنى بزيد : مدحه أو هجاه - من لوازم الإقامة والكفاية، ومنه غنى الحمام : صوت ؛ ونغى - كرمى : تكلم بكلام يفهم - لأن ذلك يسكن الخاطر عن القلق، ومنه المناغاة - وهي تكليم الصبي بما يهوى،


الصفحة التالية
Icon