صفحة رقم ٩٤
والتقوى : دفع البلاء بسلوك طريق الهدى ؛ والصبر : حبس النفس بتجرع مرارة المنع عما يشتهي، ولعله إنما ستر أمره عنهم إلى هذا الحد لأنه لو أرسل إلى أبيه يخبره قبل الملك لم يأمن كيد إخوته، ولو تعرف إليهم بعده أو أول ما رآهم لم يأمن من أن تقطع أفئدتهم عند مفاجأتهم بانكشاف الأمر وهو فيما هو فيه من العز، فإنهم فعلوا به فعل القاتل من غير ذنب قدمه إليهمن فهم لا يشكون في أنه إذا قدر عليهم يهلكهم لما تقدم لهم إليه من سوء الصنيعة، وعلى تقدير سلامتهم لا يأمنونه وإن بالغ في إكرامهم، فإن الأمور العظام - إن لم تكم بالتدريج - عظم خطرها، وتعدى ضررها، فإن أرسلهم ليأتوا بأبيهم خيف أن يختلوا أباهما من ملك مصر ويحسنوا له الإبعاد عن بلاده، فيذهبوا إلى حيث لا يعلمه، وإن أرسل معهم ثقات من عنده لم يؤمن أن يكون بينهم شر، وإن سجنهم وأرسل إلى أبيه من يأتي به لم يحسن موقع ذلك من أبيه، ويحصل له وحشة بحبس أولاده، وتعظم القاله بين الناس من أهل مصر وغيرهم في ذلك، ففعل معهم ما تقدم ليظهر لهم إحسانه وعدله ودينه وخيره، وكفه عنهم وعفوه عن فعلهم بالتدريج، ويقفوا على ذل منه قولاً وفعلاً من أخيه الذي ربى معهم وهم به آنسون وله ألفون، فتسكن روعتهم، وتهون زلتهم، ومما يدل على ذلك أنه لما انتفى عن أخيه بنيامين ما اتصفوا به مما ذكر، تعرف إليه حين قدم عليه ونهاه أن يخبرهم بحقيقة الأمر، وشرع يمد في ذلك لتستحكم الأسباب التي أرادهاِ، فلما ظن أن الأمر قد بلغ مداده، لوح لهم فعرفوه وقد أنسهم حسن عقله وبديع جماله وشكله ورائع قوله وفعله، فكان موضع الوجل والخجل، وموضع اليأس الرجاء، فحصل المراد على وفق السداد - والله الموفق ؛ وذلك تنبيه لمن قيل لهم أول السورة
٧٧ ( ) لعلكم تعقلون ( ) ٧
[ يوسف : ٢ ] على الاقتداء بأفعال الهداة المهديين في التأني والاتئاد وتفويض الأمور إلى الحكيم، وأن لا يستعجلوه في أمر، وأن يعلموا أن سنته الإلهية جرت بأن الأمور الصعاب لا تنفذ إلا بالمطاولة لترتب الأسباب شيئاً فشيئاً على وجه الإحكام، وفي ذلك فوائد من أجلها امتحان أولى الطاعة والعصيان - كما ستأتي الإشارة إليه آخر السورة بقوله ؛
٧٧ ( ) حتى إذا استيئس الرسل ( ) ٧
[ يوسف : ١١٠ ] الآية والله أعلم.
ولما كان ما ذكر، كان كأنه قيل : لقد أتاهم ما لم يكونوا يحتسبون فما قالوا ؟ فقيل :( قالوا ( متعجبين غاية التعجب.
ولذلك أقسموا بما يدل على ذلك :( تالله ) أي الملك الأعظم ) لقد آثرك الله ) أي الذي له الأمر كله ) علينا ) أي جعل لك أثراً يغطي آثارنا بعلوه فالمعنى : فضلك علينا أي بالعلم والعقل والحكم والحسن والملك والتقوى


الصفحة التالية
Icon