صفحة رقم ٣٩٠
بك معرفة قبل ذلك، فكيف وهم عارفون بأنك كنت قبل الرسالة أصقهم لهجة، واعظمهم أمانة، وأغزرهم عقلاً، وأوضحهم نبلاً، وأعلاهم همة، وابعدهم عن كل دنس - وإن قل - ساحة ؛ ثم عجب من توقفهم في الإيمان مع ما عرفوا من صدق نبيهم وطهارة أخلاقه، ووفور شفقته عليهم، ولم يخافوا من مثب ما تحقفوه من إهلاك هذه الأمم فقال :( وما كان أكثرهم ) أي أكثر قومك كما كان من قبلهم مع رؤية هذه الآيات، وإحلال المثلات حتى لكأنهم تواصوا بذلك ) مؤمنين ) أي عريقين في الإيمان، بل ما يؤمنون إلا وهو مشركون.
ولما كان هذا كله تأسية للداعي ( ﷺ )، وتهديداً لمن تمادى على تكذيبه، وترجية لمن رجع عن ذنوبه، اشار إلى ذلك بقوله :( وإن ربك ) أي المحسن إليك بكل ما يعلي شأنك، ويوضح برهانك ) لهو العزيز ( فلا يعجزه أحد، ولا ينسب في إمهال عاص إلى إهمال ولا عجز ) الرحيم ( فلا يأخذ إلا بعد تجاوز الحد، واليأس عن الرد، مع البيان الشافي، في الإبلاغ الوافي، والتلطف الكافي، وكرر الختام بهذا الكلام في هذه السورة ثماني مرات فلعل من أسراره الإشارة إلى سبق الرحمة للغضب، لأن من السورة - المفتتحة بالكتاب القيم والعبد الكامل بالإضافة إلى الملك الأعظم اللذين هما رحمة الخالق للخلائق، وذكر فيها مع تقديمها في الترهيب أهل الرحمة من أهل الكهف الذين قالوا ) هب لنا من لدنك رحمة ( وموسى والخضر عليهما السلام اللذين آتى كلا منهما من لدنه رحمة، وذا القرنين الذي آتاه من كل شيء سبباً فأتبع سبباً وقال ) هذا رحمة من ربي ( - إلى سورة الرحمة بإنزال الفرقان على عبده المضاف إليه للإنذار المؤذن بصفة العزة - ثماني سور، فكل منهما ثامنة الأخرى، وافتتحت السورة الوالية للفرقان تفصيلاً لما في أول الكهف بقوله :( لعلك باخع نفسك ( وبذكر ما على الأرض نم زينة ) ألم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم ( كل ذلك تذكيراً بما في تلك من الكتاب الجامع بالرحمة، وتحذيراً مما في القرآن من الإنذار الفارق بالعزة، فلما كان ذلك كررت صفتا العز التي أذنت بها الفرقان، والرحمة التي صرحت بها الكهف ثماني مرات بحسب ذلك العدد، تذكيراً بهذا المعنى البديع، وترغيباً وترهيباً وتذكيراً بأبواب الرحمة الثمانية مع ما لختم القصص بذلك من الروعة في النفس، والهيبة في القلب، والأنس البالغ للروح، وقدمت هنا صفة العزة الناظرة للإنذار بالفرقان على طريق النشر المشوش مع ما اقتض ذلك من الحال هنا وجعلت القصص سبعاً تحذيراً من أبواب النقمة السبعة - إلىغير ذلك من الأسرار التي لا تسعها الأفكار.
ولما كانت آثار هذه القصص آيات مرئيات، والإخبار بها آيات مسموعات، وكان