صفحة رقم ٥٠٦
وكفروها فلم يشكروها، بل فعلوا في تلقيها فعل الحائر المدهوش، فلم يحسنوا رعايتها، وقل احتماهم لحق النعمة فيها، فطفوا في التقلب عند مصاحبتها وتكبروا بهاظظظظن وتمادوا في الغي قولاً وفعلاً، من أجل ما عمهم من الرفاهية عن تقييدها وساء احتمالهم للغنى بها، وطيب العيش فيها، فأبطلوها بهذه الخصائل، وأذهبوها هدراً من غير مقابل، وذلك من قول أهل اللغة : البطر : الأشر، وقلة احتمال النعمة، والدهش والحيرة والطغيان بالنعمة، والفعل من الكل كفرح، وبطر الحق أنيتكبر عنه فلا يقبله، وبطره كنصره وضربه : شقه، والبطور : الصخاب الطويل اللسان، والمتمادي في الغي، وأبطره ذرعه : حمله فوق طاقته من وذهب دمه بطراً بالكسر، أي هدراً وبطرهم لها أنهم عصوا من خولهم فيها، فخالفوا أمره، وأنساهم الكبر بما أعطاهم ذكره.
ولما تسبب عن هذا الإخبار تشوف النفس إلى آثار هذه الديار، سبب عنه الإشارة بأداة البعد إلى منازلهم، تنبيهاً على كثرتها وسهولة الوصول إليها في كل مكان، لكونها بحيث يشار إليها وعلى بعد رتبتها في الهلاك دليلاً على اللجملة التي قبلها فقال :( فتلك مساكنهم (.
ولما كان المعنى أنها خاوية على عروشها وصل به قوله :( لم تسكن ) أي من ساكن ما مختار أو مضطر.
ولما كان المراد إفهام نفي قليل الزمان وكثيره، أثبت الجار فقال :( من بعدهم ( بعد أن طال ما تغالوا فيها ونمقوها، وزخرفها وزوقوها، وزفوا فيها الأبكار، وفرحوا بالأعمال الكبار، ) إلا ( سكوناً ) قليلاً ( بالمارة عليها ساعة من ليل أو من نهار، ثم يصير تباباً موحشة كالقفار، بعد أن كانت متمنعة القبا، ببيض الصفاح وسمر القنا.
ولما صارت هذه الأماكن بعد الخراب لا متصرف فيها ظاهراً إلا الله، ولا حاكم عليها فيما تنظره العيون سواه، وكان هذا أمراً عظيماً، وخطباً جسيماً، لأنه لا فرق فيه بين جليل وحقير، وصغير وكبير، وسلطان ووزير، دل على ضخامته بقوله مكرراً لمظهر العظمة :( وكنا ) أي أزلاً وأبداً ) نحن ( لا غيرنا ) الوارثين ( بم يستعص علينا أحد وإن عظم، ولا تأخر عن مرادنا لحظة وإن ضخم، فليت شعري اين أؤلئك الجبارون وكيف خلا دورهم، وعطل قصورهم ؟ المتكبرون أفنتهم والله كؤوس الحمام منوعة أشربه المصائب العظام، وأذلتهم مصارع الأيام، بقوة العزيز العلام، فيا ويح من لم يعتبر بأيامهم، ولم يزدجر عن مثل آثامهم.