صفحة رقم ٥٦٤
تركها الذي هو كفر، ومن انتهى عن ذلك انشرح صدره، واتسع فكره، فعلم من أسرار القرآن ما لا يعلمه غير
٧٧ ( ) واتقوا الله ويعلمكم الله ( ) ٧
[ البقرة : ٢٨٢ ].
ولما كان الناهي في الحقيقة إنما هو ذكر الله، أتبع ذلك الحث على روح الصلاة والمقصد الأعظم منها، وهو المراقبة لمن يصلي له حتى كأنه يراه ليكون بذلك في أعظم الذكر بقوله :( ولذكر الله ) أي ولأن ذكر المستحق لكل صفة كمال ) أكبر ( اي من كل شيء، فمن استحضر ذلك بقلبه هان عنده كل شيء سواه ( إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني عند لقاء قرنه ) أو يكون المراد أن من واظب على الصلاة ذكر الله، ومن ذكره أوشك أن يرق قلبه، ومن رق قلبه استنار لبه، فأوشك أن ينهاه هذا الذكر المثمر لهذه الثمرة عن المعصية، فكان ذكر الذاكر له سبحانه أكبر نهياً له عن المنكر من نهي الصلاة له، وكان ذكره له سبحانه كبيراً، كما قال تعالى ) فاذكروني أذكركم ( وإذا كان هذا شأن ذكر العبد لمولاه، فما ظنك بذكر مولاه له كلما أقبل عليه بصلاة فإنه جدير بأن يرفعه غلى حد لا يوصف، ويلبسه من أنواره ملابس لا تحصر.
ولما كان ذلك يحتاج إلى علاج لمعوج الطباع ومنحرف المزاج، وتمرن على شاق الكلف، ورياضة لجماح النفوس، وكان ( ﷺ ) قد نزه عن ذلك كله لما جبل عليه من أصل الفطرة، ثم بما غسل به قلبه نم ماء الحكمة، وغير ذلك من جليل النعمة، عدل إلى خطاب الأتباع يحثهم على المجاهدة فقال :( والله ) أي المحيط علماً وقدرة ) يعلم ) أي في كل وقت ) ما تصنعون ( من الخير والشر، معبراً بلفظ الصنعة الدال على ملازمة العمل تنبيهاً على أن إقامة ما ذكر تحتاج إلى تمرن عليه وتدرب، حنى بصير طبعاً صحيحاً، ومقصوداً صريحاً.
ولما انتهى الكلام إلى روح الدين وسر اليقين مما لا يعلمه حق علمه إلا العلماء بالكتب السماوية والأخبار الإلهية، وكان العالم يقدر على إيراد الشكوك وترويج الشبه، فربما اضل بالشبهة الواحدة النيام من الناس، بما له عندهم من القبول، وبما للنفوس من النزوع إلى الأباطيل، وبما للشيطان في ذلك من التزيين، وكان الجدال يورث الإجن، ويفتح أبواب المحن، فيحمل على الضلال، قال تعالى عاطفاً على ) اتل ( نخاطباً لمن ختم الآية بخاطابهم تنزيهاً لمقامه ( ﷺ ) عن المواجهة بمثل ذلك تنبيهاً على أنه لا يصوب همته الشريفة إلى مثل ذلك، لأنه ليس في طبعه المجادلة، والمماراة والمغالبة :( ولا تجادولوا أهل الكتاب ( اي اليهود والنصارى ظناً منكم أن الجدال ينفع الدين، أو يزيد في اليقين، أو يرد أحداً عن ضلال مبين ) إلا بالتي ) أي بالمجادلة التي ) هي أحسن ( اي بتلاوة الوحي الذي امرنا راس العابدين بإدامة تلاوته فقط، وهذا كما تقدم عند قوله تعالى في سبحان
٧٧ ( ) وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ( ) ٧
[ الإسراء : ٥٣ ].


الصفحة التالية
Icon