صفحة رقم ٢١٦
قال معبراً بالماضي لأن مواقيت الصلاة مضبوطة :( وأقاموا ) أي دليلاً على خشيتهم ) الصلاة ( في أوقاتها الخمسة وما يتبع ذلك من السنن.
ولما كان التقدير : فمن كان على غير تدسى، ومن كان على هذا فقد تزكى، ومن تدسى فإنما يتدسى على نفسه، عطف عليه قوله، مشيراً بأداة التفعل إلى أن النفس أميل شيء إلى الدنس، فلا تنقاد إلى أحسن تقويم إلا باجتهاد عظيم.
) ومن تزكّى ) أي تطهر وتكثر بهذه المحاسن.
ولما كان الإنسان ليفيده بالأسباب القريبة قد يغفل عن أن هذا نفع له وخاص به أكده فقال :( فإنما يتزكّى لنفسه ( فإنه لا يضر ولا ينفع في الحقيقة غيرها ) وإلى الله ( الذي يكشف عن جميع صفاته أتم كشف تحتمله العقول يوم البعث لا إلى غيره ) المصير ( كما كان منه المبدأ فيجازي كلاًّ على فعله فينصف بينك وبين من خشي ربه بإنذارك ومن أعرض عن ذلك.
ولما كان التقدير : فما يستوي في الطبع والعقل المتدسي الذي هو أعمى بعصيانه في الظلمات ولا المتزكي الذي هو بطاعاته بصير في النور وإن استويا في الإنسانية، عطف عليه ما يصلح أمثلة للمتدسي والمتزكي وما يكون به التدسية والتزكية، دلالة على تمام قدرته الذي السياق له من أول السورة، وتقريراً لأن الخشية والقسوة بيده إبطالاً لقول من يسند الأمور إلى الطبائع قوله :( وما يستوي ) أي في حالة من الأحوال.
ولما كان المقام لوعظ المشركين، وكان المتدسي قبل المتزكي على ما قرر قبله، ناسب أن ينظم على هذا الترتيب قوله مثالاً للكافر والمؤمن والجاهل والعالم، وقدم مثال الجاهل لأن الأصل عن الإرسال الجهل :( الأعمى والبصير ) أي لا الصنفان ولا أفرادهما ولا أفراد صنف منهما، وأغنى عن إعادة النافي ظهور المفاوتة بين أفراد كل صنف من الصنفين، فالمعنى أن الناس غير مستوين في العمى والبصر بل بعضهم أعمى وبعضهم بصير، لأن افتعل هنا لمعنى تفاعل، ولعله عبر به دلالة على النفي ولو وقع اجتهاد في أن لا يقع، أو دلالة على أن المنفي إنما هو التساوي من كل جهة، لا في أصل المعنى ولو كان ذلك مستنداً إلى الطبع لكانوا على منهاج واحد بل وأفرد كل متفاوتون فتجد بعض العمى يمشي بلا قائد في الأزقة المشكلة، وآخر لا يقدر على المشي في بيته إلا بقائد، وآخر يدرك من الكتاب إذا جسه كم مسطرته من سطر، وهل خطه حسن أو لا، وآخر يدرك الدرهم الزيف من غيره، ويميز ضرب كل بلد من غيره، وربما نازعه أحد مغالطة فلا يقبل التشكيك، وآخر في غاية البعد عن ذلك، وأما البصراء فالأمر فيهم واضح في المفاوتة في أبصارهم وبصائرهم، وكل ذلك دليل واضح على أن الفاعل قادر مختار يزيد في الخلق ما يشاء، وإلا لتساوت الأفراد فكانوا على منهاج واحد.