صفحة رقم ٢٤٦
بملازمة الغفلة ) على أكثرهم فهم ) أي بسبب ذلك ) لا يؤمنون ) أي بما يلقى إليهم من الإنذار بل يزيدهم عمى استكباراً في الأرض ومكر السيئ.
ولما كان المعنى أنه لا يتجدد منهم إيمان بعد البيان الواضح والحكمة الباهرة، وكان ذلك أمراً عجباً، علله بما يوجبه من تمثيل حالهم تصويراً لعزته سبحانه وباهر عظمته الذي لفت الكلام إليه لإفهامه - وهذا الذي ذكر هو اليوم معنى ومثال وفي الآخرة ذات ظاهر - وأنه ما انفك عنهم أصلاً وما زال، فقال :( إنا جعلنا ) أي بما لنا من العظمة، وأكده لما لهم من التكذيب ) في أعناقهم أغلالاً ) أي من الظلمات الضلالات كل عنق غل، وأشار بالظرف إلى أنها من ضيقها لزت اللحم حتى تنثر على الحديد فكاد يغطيه فصار - والعنق فيه - كأنه فيها وهي محيطة به.
ولما كان من المعلوم أن الحديد إذا وضع في العنق أنزله ثقله إلى المنكب، لم يذكر جهة السفل وذكر جهة العلو فقال :( فهي ) أي الأغلال بعرضها واصلة بسبب هذا الجعل ) إلى الأذقان ( جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين، فهي لذلك مانهة من مطاطأة الرأس.
ولما كان هذا من رفع الرأس فعل المتكبر، وكان تكبرهم في غير موضعه، بيّن تعالى أنهم ملجؤون إليه فهو ذل في الباطن وإن كان كبراً في الظاهر فقال :( فهم ) أي بسبب هذا الوصول ) مقمحون ( من أقمح الرجل - إذا أقمحه غيره أي جعله قامحاً أي رافعاً رأسه غاضاً بصره لا ينظر إلا ببعض بصره هيئة المتكبر، وأصله من قولهم : قمح البعير - إذا رفع رأسه عند الشرب ولم يشرب الماء، قال في الجمع بين العباب والمحكم : قال بشر بن أبي حازم يصف سفينة، قال أبو حيان : ميتة أحدهم ليدفنها :
ونحن على جوانبها قعود نغض الطرف كالإبل القماح
وقال الرازي في اللوامع : والقمح : الذي يضرب رأسه إلى ظهره هيئة البعير، وقال القزاز : والمقمح : الشاخص بعيينه الرافع رأسه.
أبو عمرو : والقامح من الإبل هو الذي لا يشرب وهو عطشان عطشاً شديداً ولا تقبل نفسه الماء، والقمح مصدر قمحت الشيء والاقتماح : أخذك الشيء في راحتك ثم تقمحه في فيك أي تبتلعه، والاسم القمحة كاللقمة والأكلة - انتهى.
وكأن المقمح من هذا لأن هيئته عند هذا الابتلاع رفع رؤوسهم عن النظر إلى الداعي تكبراً بحيث لو أمكنهم أن يسكنوا الجو لهم يتأخروا صلافة وتيهاً، أو لأنهم يتركون هذا الأمر العظيم الحسن الجدير بأن تقبل عليه ويتروى منه وهم في غاية الحاجة إليه، فهم ذلك كالبعير القامح، إنما منعه من الماء