صفحة رقم ٢٥٨
استهزاءهم مع علمهم بأن الله تعالى أجرى سنته أن من استهزأ بالرسل وخالف قولهم فلم يرجع إليه أهلكه، أطرد ذلك من سنته ولم يختلف في أمة من الأمم كما وقع لقوم نوح وهود ومن بعدهم، لم يتخلف في واحدة منهم، وكلهم تعرف العرب أخبارهم، وينظرون آثارهم، وكذا ير هؤلاء كثرة من اهلكنا ممن قبلهم لمخالفتهم للرسل، أفلا يخشون مثل ذلك في مخالفتهم لرسولهم ؟ وذلك موافق لقراءة الكسر التي نقلها البرهان السفاقسي عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره عن الحسن، وقالوا : إنها استئنافية، فهي على تقدير سؤال من كأنه قال : لم أهلكهم ؟ وهذا كما إذا شاع أن الوادي الفلاني ما سلكه أحد إلا أصيب، يكون ذلك مانعاً عن سلوكه، وإن أراد ذلك أحد صح أن يقال له : ألم تر أنه ما سلكه أحد إلا هلك، فيكون ذلك زاجراً له ورادّاً عن التمادي فيه، لكون العلة في الهلاك سلوكه فقط، وذلك أكف له من أن يقال له : ألم تر أن الناس يموتون وكثرة من مات منهم ولم يرجع أحد منهم، غير معلل ذلك بشيء من سلوك الوادي ولا غيره، فإن هذا أمر معلوم له، غير مجدد فائدة، وزيادة عدم الرجوع إلى الدنيا لا دخل لها في العلية أيضاً لأن ذلك معلوم عند المخاطبين بل هم قائلون بأعظم منه من أنه لا حياة بعد الموت لا إلى الدنيا ولا إلى غيرها، وعلى تقدير التسليم فربما كان ذكر الرجوع للأموات أولى بأن يكون تهديداً، فإن كل إنسان منهم يرجع حينئذ إلى ما في يد غيره مما كان مات عليه ويصير المتبوع بذلك تابعاً أو يقع الحرب وتحصل الفتن، فأفاد ذلك أنه لا يصلح التهديد بعدم الرجوع - والله الموفق للصواب.
ولما كان كثير من أهل الجهل وذوي الحمية والأنفة لا يبالون بالهلاك في متابعة الهوى اعتماداً على أن موتة واحدة في لحظة يسيرة أهون من حمل النفس على ما لا تريد، فيكون لهم في كل حين موتات، أخبر تعالى أن الأمر غير منقض بالهلاك الدنيوي، بل هناك من الخزي والذل والهوان والعقوبة والإيلام ما لا ينقضي أبداً فقال :( وإن كل ) أي وإنهم كلهم، لا يشذ منهم أحد، وزاد في التأكيد لمزيد تكذيبهم بقوله :( لما ( ومن شدد ) لما ( فالمعنى عنده ( وما كل منهم إلا ) وأشار إلى أنهم يأتون صاغرين راغمين في بحال التخلف عن الانتصار عليه فقال :( جميع ( وأشار إلى غرابة الهيئة التي يجتمعون عليها بقوله :( لدنيا ( وزاد في العظمة بإبرازه في مظهرها، وعبر باسم الفاعل المأخوذ من المبني للمفعول جامعاً نظراً إلى معنى ) كل ( لأنه أدل على الجمع في آن واحد وهو أدل على العظمة :( محضرون ) أي في يوم القيامة


الصفحة التالية
Icon