صفحة رقم ٢٦٤
دام هذا الكون موجوداً على هذا الترتيب ) أن تدرك ) أي لأن حركتها بطيئة ) القمر ) أي فتطسمه بالكلية، فما النهار سابق الليل ) ولا الّيل سابق النهار ) أي حتى ينبغي للقمر مع سرعة سيره أن يدرك الشمس ويغلبها فلا يوجد نهار أصلاً، ولو قيل : يستبق لاختل المعنى على ما حذف من الثانية من نفي إدراك القمر للشمس، وذكر ثانياً سبق الليل النهار لما له من القوة بما يعرض من النهار فيغشيه دليلاً على حذف سبق النهار الليل أولاً ) وكل ) أي من المذكورات حقيقة ومجازاً ) في فلك ( محيط به، ولما ذكر لها فعل العقلاء، وكان على نظام محرر لا يختل، وسير مقدر لا يعوج ولا ينحل، فكان منزهاً عن آفة تلحقه، أو ملل يطرقه، عبر بما تدور مادته على القدرة والشدة والاتساع فقال : آتياً بضمير العقلاء جامعاً لأنه أدل على تسخيرهم دائماً :( يسبحون ( حثاً على تدبر ما فيها من الآيات التي غفل عنها - لشدة الإلف لها - الجاهلون.
ولما ذكر ما حد له حدوداً في السباحة في وجه الفلك لو تعداها لاختل النظام، ذكر ما هيأه من الفلك والسباحة على وجه الماء الذي طبق الأرض في زمن نوح عليه السلام حتى كانت السماء، ولو تعدت السفينة ما حد لها سبحانه من المنازل فنفذت إلى بحر الظلمات لفسد الشأن، وكانوا فيها كأنهم في الأرض، وبسيرها كأنهم يخترقون الجبال والفيافي والقفاز - كل ذلك تذكير بأيام الله، وتنبيهاً على استدرار نعمه، وتحذيراً من سطواته ونقمه، ومنّاً عليهم بما يسر لهم من سلوك البحر والتوصل به إلى جليل المنافع فقال :( وآية لهم ) أي على قدرتنا التامة الشامل ) أنا ) أي على ما لنا من العظمة ) حملنا (.
ولما كان من قبل نوح عليه السلام من أصول البشر لم يحملوا في الفلك، عدل عن التعبير بالضمير والآباء إلى قوله :( ذريتهم ) أي ذرية البشر التي ذرأناها وذروناها وذررناها حتى ملأنا بها الأرض من ذلك الوقت إلى آخر الدهر، ولهذا التكثير المفهوم من هذا الاشتقاق البليغ اغتنى ابن كثير وأبو عمرو والكوفيون فقرؤوا بالإفراد، وزادت في الإيضاح قراءة الباقين بالجمع، بعضهم ظاهراً وبعضهم في ظهر أبيه ) في الفلك ( عرفه لشهرته بين جميع الناس ) المشحون ) أي الموقر المملوء حيواناً وزاداً، وهو يتقلب في تلك المياه التي لم ير قط مثلها ولا يرى أبداً، ومن ذلك فسلمه الله.
ولما كانت هذه الآية لم تنقطع بل عم سبحانه بنفعها :( وخلقنا ) أي بعظمتنا الباهرة ) لهم من مثله ) أي من مثل ذلك الفلك من الإبل والفلك ) ما يركبون ) أي مستمرين على ذلك على سبيل التجدد ليقصدوا منافعهم، ولو شئنا لمنعنا ذلك.