صفحة رقم ٢٧٩
القوى، ومعلوم قطعاً أن الذي أتى به ليس بشعر خلافاً لما رموه به بغياً وعدواناً، وكذباً على جنابه وافتراء وتجاوزاً في البهت وطغياناً، لأنه قد مضى عليه سن الصبا والشباب جميعاً ولم يقل بيت شعر ما يرى لكم ولأمثالكم فيه من المفاخرة، وبه من المكاثرة، وقد وصل إلى سن الوقوف المعلوم قطعاً أنه لا يحدث للإنسان فيه غريزة لم تكن أيام شبابه لا شعرية ولا غيرها :( وما علمناه ) أي نحن ) الشعر ( فيما علمناه وهو أن يتكلف التقيد بوزن معلوم وروي مقصود وقافيه يلتزمها، ويدير المعاني عليها ويجتلب الألفاظ تكلفاً إليها كما كان زهير في قصائده الحوليات وغيره من أصحاب التكلفات
٧٧ ( ) وما أنا من المتكلفين ( ) ٧
[ ص : ٨٦ ] لأن ذلك وإن كنتم أنتم تعدونه فخراً لا يليق بجنابنا لأنه لا يفرح به إلا من يريد ترويج كلامه وتحليته بصوغه على وزن معروف مقصود وقافيه ملتزمة لكونه لا يقدر على الإيتان بأحسن منه بما لا يقايس من غير التزام وزن ولا قافية على أن فيه نقيصة أخرى، وهي أعظم ما يوجب النفرة منه، وهي أنه لا بد أن يوهي التزامه بعض المعاني، ولما لم نعلمه هذه الدناءة طبعناه على جميع فنون البلاغة، ومكناه من سائر وجوه الفصاحة، ثم أسكنا قلبه ينابيع الحكمة، ودربناه على إلقاء المعاني الجليلة وإن دقت في الألفاظ الجزلة العذبة السهلة موزونة كانت أو لا، وذلك بما ألهمناه إياه ثم بما ألقاه إليه جبريل عليه السلام مما أمرنا له به من جوامع الكلم والكلام، فلا تكلف عنده اصلاً، ما خير بين الأمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم، وهذا البيت الذي أوردته عزاه في الحماسة في أوائل باب الأدب إلى رجل من بني قريع لم يسمه وقبله :
متى ما يرى الناس وجاره فقير يقولوا عاجز وجليد وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ولكن أحاظ قسمت وجدود إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً فمطلبها كهلاً عليه شديد وكائن رأينا من غنى مذمم وصعلوك قوم مات وهو حميد
والمعنى أن كثرة المال وقلته ليست من غريزة من الغرائز، وإنما هي أمر رباني لا مدخل للغرائز من جلاده ولا غيرها فيه، بدليل أنا كثيراً ما رأينا من فاته الغنى شاباً جلداً وناله شيخاً ضعيفاً، وما رأينا من أخطأته المروءة شاباً نالها شيخاً، وبدليل أنه كم من غني كانت غرائزه ذميمة، وكم من فقير كانت خلائقه محمودة، والمروءة هي الإنسانية، وهي كل أمر هنيء حميد المغبة جميل العاقبة، وهذا هو السيادة، يعني أن من كانت المروءة في غريزته حمله طبعه على تعاطيها في شبابه غنياً كان أو فقيراً، ومن لم يكن عنده لم يقدر على تكلفها في سن الاكتهال، فلله درهم ما كان أحكمهك وأدراهم