صفحة رقم ٣١٢
ولما كان ذلك الاجتماع إنما هو للسرور، وكان السرور لا يتم إلا بالمنادمة، وكان أحلى المنادمة ما يذكر بحلول نعمة أو انحلال نقمة، تسبب عن ذلك ولا بد قوله إشارة إلى فراغ البال وصحة العقل بالإصابة في المقال :( فأقبل بعضهم ) أي أهل الجنة بالكلام، وأشار إلى أن مجرد الإقبال بالقصد يلفت القلوب إلى سماعه بأداة الاستعلاء فقال :( على بعض ) أي لأجل الكلام الذي هو روح ذلك المقام، وأما المواجهة فقد تقدم أنها دائمة، وبين حال هذا الإقبال فقال :( يتساءلون ) أي يتحدثون حديثاً بيناً لا خفاء بشيء منه بما أشار إليه الإظهار بما حقه أن يهتم به ويسأل عنه من أحوالهم التي خلصوا منها بعد أن كادت ترديهم، وسماه سؤالاً لأنه مع كونه أهلاً لأن يسأل عنه - لا يخلو عن سؤال أدناه سؤال المحادث أن يصغي إلى الحديث، وعبر عنه بالماضي إعلاماً بتحققه تحقق ما وقع.
ولما تشوف السامع إلى سماع شيء منها يكون نموذجاً للباقي، أشار إلى ذلك بقوله مستأنفاً :( قال قائل منهم ) أي في هذا التساؤل، وشتان ما بينه وبين ما مضى خبره من تساؤل أهل النار.
ولما كان ظنه أنه لا يخلص من شر ذلك القرين الذي يحدث عنه فنجاه الله منه على خلاف الظاهر، فكان ذلك إحدى النعم الكبرى، نبه عليه بالتأكيد فقال :( إني كان لي قرين ) أي جليس من الناس كأنه شيطان مبين ) يقول ) أي مكذباً بالبعث مستبعداً له غاية الاستبعاد مجدداً لقوله في كل وقت، يريد أن يختدعني بلطافة قياده إلى سوؤ اعتقاده :( أإنك لمن الصادقين ) أي بالبعث - يوبخني بذلك ويستقصر باعي في النظر استثارة لهمتي وإلهاباً لنخوتي وحميتي، ويكرر الإنكار بقوله :( أإذ متنا ) أي فذهبت أوراحنا ) وكنا ) أي كوناً راسخاً ) تراباً وعظاماً ) أي فانمحقت أجسامنا التي هي مراكب الأرواح ) أإنا لمدينون ) أي لمجزيون بعد ذلك بما عملنا بان نبعث ونجازى، وكان تأكيده للإشارة منه إلى كل عاقل جدير بأن يكذب بما أقررت به لبعده، أو إلى أنه مكذب به ولو كان مؤكداً.
ولما كان هذا المقال سبباً لعظيم تشوف السامع إلى ما يكون بعده، وكان أهل الجنة من علو المكان والمكانة وصحة الأجسام وقوة التركيب ونفوذ الأبصار بحيث ينظرون ما شاؤوا من النار وغيرها مما دونهم متى شاؤوا، استانف قوله مشيراً إلى أن حاله هذت معلم أنه من أهل النار :( قال ) أي هذا القائل لشربه هؤلاء الذين هم كما قال بعضهم في موشح :
رب شرب كالعقد قد نظموا في ثياب طرازها الكرم


الصفحة التالية
Icon