صفحة رقم ٣٢٦
من آيتنا ( فهذا هو الفناء حتى عن الفناء، ثم قال :( أنه هو السميع البصير ( فأثبت له مع ذلك الكمال.
ولما لم يجد له معيناً على الهجرة غير لوط ابن أخيه عليهما السلام، قال منادياً منادة الخواض بإسقاط الأداة :( رب ) أي أيها المحسن إلي ) هب لي من ) أي ولداً من ) الصالحين ( وأسقط الموصوف لأن لفظ الهبة غلب في الولد، فتسبب عن دعوته أنا استجبناها له ) فبشرناه بغلام ) أي بذكر في غاية القوة التي ينشأ عنها الغلمة.
ولما كان هذا الوصف ربما أفهم الطيش، وصفه بما أبقى صفاءه ونفى كدره فقال :( حليم ) أي لا يعجل بالعقوبة مع القدرة، لأنه في غاية الرزانة والثبات، فيكون ذلك إشارة إلى حصول بلاء ما يتبين به أنه سر أبيه أن إبراهيم لحليم، والحلم لا يكون إلا بعد العلم، ورسوخ العلم سبب لوجود الحلم، وهو اتساع الصدر لمساوئ الخلق ومدانئ أخلاقهم، وهذا الولد هو إسماعيل عليه السلام بلا شك لوجوده : منها وصفه بالحليم، ووصف إسحاق عيله السلام في سورة الحجر بالعليم، ومنها أن هذا الدعاء عند الهجرة حيث كان شاباً يرجو الولد، وهو بكره الذي ولد له بهذه البشرى، وهو الذي كان بمكة موضع الذبح، فجعلت أفعاله في ذبحه مناسك للحج في منى كما جعلت أفعال أمه في مكة المشرفة أول أمره عندما أشرف على الموت من العطش مناسك ومعالم هناك، وأما إسحاق عليه السلام فأتته البشرى فجأة وهو لا يرجو الولد لكبره ويأس أمرأته، ولذلك راجع في أمره ولم ينقل أنه فارق أمه من بيت المقدس، ولو كان هو الذبيح لذكره النبي ( ﷺ ) بوصفه حين سئل عن الأكرم فقال ( يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله خليل الله ) والرواية التي وردت بالإشارة إلى أنه الذبيح ضعيفة، بل صرح شيخنا ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف بأن في سندها وضاعاً، ولأن هذه السورة سورة التنزيه، فأحق الناس بالذكر فيها - كما سلف - أعرق الناس في قدم التجريد، وهو أولى الناس بذلك من حين كان حملاً إلى أن عولج ذبحه، ولم يذكر ظاهراً، فلو لم يكن المراد بهذا الكلام لكان ترك في هذه السورة - التي حالها هذا - من هو أرسخ الناس في الوصف المقصود بها، وذلك خارج عن نهج البلاغة التي هي مطابقة المقال لمقتضى الحال، بل هذا الحال لا يقتضي ذكر إسحاق عليه السلام، لأنه لم يعلم له تجرد متفق عليه، وما كان ذكره إلا لبيان إبراهيم عليه السلام لما اقتضاه مقامه في الاجسان في باب التجريد والفناء - والله الموفق.


الصفحة التالية
Icon