صفحة رقم ٥١٦
ولما كان فساد ما قاله فرعون أظهر من أن يحتاج إلى بيان، أعرض المؤمن عنه تصريحاً، ولوّح إلى ما حكاه الله عنه من أنه محيط به الهلاك تلويحاً في قوله منادياً قومه ومستعطفاً لهم ثلاث مرات : الأولى على سبيل الإجمال في الدعوة، والأخريان على سبيل التفصيل، فقال تعالى عنه :( وقال الذي آمن ) أي مشيراً إلى وهي قول فرعون بالإعراض عنه، وعبر بالفعل إشارة إلى أنه ينبغي لأدنى أهل الإيمان أن لا يحقر نفسه عن الواعظ :( يا قوم ) أي يا من لا قيام لي إلا بهم فأنا غير مهتم في نصيحتهم ) اتبعون ) أي كلفوا أنفسكم اتباعي لأن السعادة غالباً تكون فيما يكره الإنسان ) أهدكم سبيل ) أي طريق ) الرشاد ) أي الهدى لأنه مع سهولته واتساعه موصل ولا بد إلى المقصود، وأما ما قال فرعون مدعياً أنه سبيل الرشاد لا يوصل إلا إلى الخسار، فهو تعريض به شبيه بالتصريح.
ولما كان هذا دعاء على سبيل الإجمال، وكان الداء في الإقبال على الفاني، والدواء كله في الإقدام على الباقي، قال استئنافاً في جواب من سأل عن تفصيل هذه السبيل مبيناً أنها العدول عما ينفى محقراً للدنيا مصغراً لشأنها لأن الإخلاد إليها أصل الشر كله، ومنه يتشعب ما يؤدي إلى سخط الله ) يا قوم ( كرر ذلك زيادة في استعطافهم بكونهم مطبوعة على الوهم لا تعد الحاصل إلا الحاضر أكد فقال :( إنما هذه الحياة ( وحقرها بقوله :( الدنيا ( إشارة إلى دناءتها وبقوله :( متاع ( إشارة إلى أنها جيفة لأنها في اللغة من جملة مدلولات المتاع، فلا يتناول منها إلا كما يتناول المضطر من الجيفة لأنها دار القلعة والزوال والتزود والارتحال.
ولما افتتح بذم الدنيا، ثنى بمدح الآخرة فقال :( وإن الآخرة ( لكونها المقصودة بالذات ) هي دار القرار ( التي لا تحول منها أصلاً دائم كل شيء من ثوابها وعقابها، والهلاك، لمن اجترأ على المحارم واستخف الانتهاك قال الاصفهاني : قال بعض العارفين : لو كانت الدنيا ذهباً فانياً والآخرة خزفاً باقياً، لكانت الآخرة خيراً من الدنيا فكيف والدنيا خزف فان، والآخرة ذهب باق بل أشرف وأحسن.
وكما أن النعيم فيها دائم فكذلك العذاب، فكان الترغيب في نعيم الجنان، والترهيب من عذاب النيران، من أعظم وجوه الترغيب والترهيب، فالآية من الاحتباك : ذكر المتاع أولاً دليلاً على حذف التوسع ثانياً، والقرار ثانياً دليلاً على حذف الارتحال أولاً.