صفحة رقم ٥٣
سلاسة ) أي من شيء مسلول، أي منتزع منه ) من ماء مهين ) أي حقير وضعيف وقليل مراق مبذول، فعيل بمعنى مفعول، وأشار إلى عظمة ما بعد ذلك من خلقه وتطويره بقوله :( ثم سواه ) أي عدله لما يراد منه بالتخطيط والتصوير وإبداع المعاني ) ونفخ فيه من روحه ( الروح ما يمتاز به الحي من الميت، الإضافة للتشريف، فيا له من شرف ما أعلاه إضافته إلى الله.
ولما ألقى السامعون لهذا الحديث أسماعهم، فكانوا جديرين بأن يزيد المحدث لهم إقبالهم وانتفاعهم، لفت إليهم الخطاب قائلاً :( وجعل ) أي بما ركب في البدن من الأسباب ) لكم السمع ) أي تدركون به المعاني المصوته، ووحده لقلة التفاوت فيه إذا كان سالماً ) والأبصار ( تدركون بها المعاني والأعيان القابلة، ولعله قدمها لأنه ينتفع بهما حال الولادة، وقدم السمع لأنه يكون إذ ذاك أمتن من البصر.
ولذا تربط القوابل العين لئلا يضعفها النور، وأما العقل فإنما يحصل بالتدريج فلذا أخر محله فقال :( والأفئدة ) أي المضغ الحارة المتوقدة المحترفة، وهي القلوب المودعة غرائز العقول المتباينة فيها أيّ تباين ؟ قال الرازي في اللوامع : جعله - أي الإنسان - مركباً من روحاني وجسماني، وعلوي وسفلي، جمع فيه بين العالمين بنفسه وجسده، واستجمع الكونين يعقله وحسه، وارتفع عن الدرجتين باتصال الأمر الأعلى به وحياً قولياً، وسلم الأمر لمن له الخلق والأمر تسليماً اختيارياً طوعياً.
ولما لم يتبادروا إلى الإيمان عند التذكير بهذه النعم الجسام قال :( قليلاً ما تشكرون ) أي وكثيراً ما تكفرون.
ولما كانوا قد قالوا : محمد ليس برسول، والإله ليس بواحد، والبعث ليس بممكن، فدل على صحة الرسالة بنفي الريب عن الكتاب، ثم على الوحداينة بشمول القدرة وإحاطة العلم بإبداع الخلق على وجه هو نعمة لهم، وختم بالتعجيب من كفرهم، وكان استبعادهم للبعث - الذي هو الأصل الثالث - من أعظم كفرهم، قال معجباً منهم في إنكاره بعد التعجيب في قوله :( أم يقولون افتراه (، لافتاً عنهم الخطاب إيذاناً بالغضب من قولهم :( وقالوا ( منكرين لما ركز في الفطر الأُوَل، ونبهت عليه الرسل، فصار بحيث لا يكره عاقل ألم بشيء من الحكمة :( أإذا ) أي أنبعث إذا ) ضللنا ) أي ذهبنا وبطلنا وغبنا ) في الأرض ( بصيرورتنا تراباً مثل ترابها، لا يتميز بعضه من بعض : قال أبو حيان تبعاً للبغوي والزمخشري وابن جرير الطبري وغيرهم : وأصله من ضل الماء في اللبن - إذا ذهب.
ثم كرروا الاستفهام الإنكاري زيادة في الاستبعاد فقالوا :( إنا لفي خلق جديد ( هو محيط بنا ونحن مظروفون له.
ولما كان قولهم هذا يتضمن إنكارهم القدرة، وكانوا يقرون بما يازمهم منه الإقرار