صفحة رقم ٥٣٠
يوجدون الكبر، ودل على أن المراد بالدعاء العبادة بقوله :( عن عبادتي ) أي عن الاستجابة لي فيما دعوت من العبادة بالمجادلة في آياتي والإعراض عن دعائي في جميع ما ينوبهم في الشدة والرخاء ) سيدخلون ( بوعد لا خلف فيه ) جهنم ( فتلقاهم جزاء على كبرهم بالتهجم والعبوسة والكراهة ) داخرين ) أي صاغرين حقيرين ذليلين، فالآية من الاحتباك : ذكر الدعاء أولاً دليلاً على حذفه ثانياً، والعبادة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً.
ولما ختم ذلك أيضاً بأمر الساعة، زاد في الدلالة عليه وعلى الفعل بالاختيار والحكمة التي لا يسوغ معها إهمال الخلق من غير حساب، في دار ثواب وعقاب، بعد الإتقان لدار العمل بالخطإ والصواب، فقال معللاً مفتتحاً بالاسم الأعظم الذي لا يتخيل أن المسمى به يهمل المتكبرين عيله مع الإبلاغ في الإحسان إليهم ) الله ) أي المحيط بصفات الكمال ) الذي جعل لكم ( لا غيره ) الّيل ) أي مظلماً ) لتسكنوا فيه ( راحة ظاهرية بالنوم الذي هو الموت الأصغر، وراحة حقيقية بالعبادة التي هي الحياة الدائمة ) والنهار مبصراً ( لتنتشروا فيه باليقظة التي هي إحياء في المعنى، فالآية من الاحتباك : حذف الظلام أولاً لكونه ليس من النعم المقصودة في أنفسها لما دل عليه من الإبصار الذي هو المقصود من نعمة الضياء المقصود في نفسه، وحذف الانتشار لأنه بعض ما ينشأ عن نعمة الإبصار لما دل عليه من السكون الذي هو المقصود الأعظم من الليل : للراحة لما أرادها، لما اعتمدها واستزادها.
ولما كان بعض الكفرة ينسب الأفعال كما مضى للطبائع ويجعلها بغير اختيار، قال مستأنفاً أو معللاً مؤكداً :( إن الله ) أي ذا الجلال والإكرام ) لذو الفضل ) أي عظيم جداً ياختياره ) على الناس ) أي كافة باختلاف الليل والنهار وما يحتويان عليه من المنافع.
ولما بلغت هذه الآيات من الدلالة على الوحدانية والبعث ونفى أمر الطبائع حداً قل أن يوجد في غيرها، فكان المخالف مذموماً لذلك غاية الذم، فكان التعميم بالذم للمخالفين واقعاً في أوفق محاله، وكان الاسم قد يراد بعض مدلومه، وكان المراد هنا التعميم، أظهر للإفهام إرادة ذلك، ولم يضمر ليتعلق الحكم بالوصف المفهم للنوس المشير إلى أن صاحبه قاصر عن درجة أول أسنان المؤمنين فيعلم أن هذا النوع مطبوع على ذلك فقال :( ولكن أكثر الناس ) أي بما لهم من الاضطراب وعدم الثبات في لزوم الصواب ) لا يشكرون ( فينسبون أفعاله سبحانه إلى غيره جهلاً، أي يعلمون بما يسلب عنهم اسم الشكر من الشرك وغيره، ويجوز أن يكون المراد بالناس أولاً كل من يتأتى منه النوس، وهو كل من برز الوجود، وبهم ثانياً الجن والإنس - والله أعلم.