صفحة رقم ٥٨٤
انتصار وعناد يدل على طاعة وعدم حقارة بل إكرام هذا أغلب الاستعمال، ولعل حكمة التعبير بصيغة المبالغة الإشارة ألى أنه ترك الحكم والأخذ للمظلوم من الظالم، لكن بليغ الظلم من جهة الحكمة التي هي وضع الأشياء في أتقن محالها ثم من جهة وضع الشيء وهو العفو عن المسيء وترك الانتصار للمظلوم في غير موضعه، ومن جهة التسوية بين المحسن والمسيء، وذلك أشد في تهديد الظالم لأن الحكيم لا يخالف الحكمة فكيف إذا كانت المخالفة في غاية البعد عنها - هذا مع أن التعبير بها لا يضر لأنها موضوعة أيضاً للنسبة إلى أصل المعنى مطلقاً ولأن نفي الظلم مصرح به في آيات أخرى.
ولما تضمنت الآية السالفة الجزاء على كل جليل وحقير، وقليل وكثير، والبراءة من الظلم، كما قال تعالى ) وضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون (
٧٧ ( ) ووفيت كل نفس ما علمت ( ) ٧
[ آل عمران : ٢٥ ] ) وهو أعلم بما يفعلون ( وأشير إلى التوعد بالجزاء في يوم الفصل لأنا نشاهد أكثر الخلق يموت من غير جزاء، وكان من عادتهم السؤال عن علم ذلك اليوم، وكان ترك الجزاء إنما يكون للعجز، والظلم إنما يكون للجهل، لأنه وضع الأشياء في غير محالها فعل الماشي في الظلام، دل على تعاليه عن كل منهما بتمام العلم المستلزم لشمول القدرة على وجه فيه جوابهم عن السؤال عن علم الوقت الذي تقوم به الساعة الذي كان سبباً لنزول هذه الآية - كما ذكره ابن الجوزي - بقوله على سبيل التعليل :( إليه ) أي إلى المحسن إليك لا إلى غيره ) يرد ( من كل راد ) علم الساعة ) أي التي لا ساعة في الحقيقة غيرها، لما لها من الأمور التي لا نسبة لغيرها بها، فهي الحاضرة لذلك في جميع الأذهان، وإنما يكون الجزاء على الإساءة والإحسان فيها حتى يظهر لكل أحد ظهوراً بينا لكل أحد أنه لا ظلم أصلاً، فلا يمكن أن يسأل أحد سواه عنها ويخبر عنها بما يغنى في تعيين وقتها وكيفيتها وصنعتها، وكلما انتقل السائل من مسؤول ألى أعلم منه وجده كالذي قبله حتى يصل الأمر إلى الله تعالى، والعالم منهم هو الذي يقول : الله أعلم، فاستئثاره بعلمها دال على تناهي علمه، وحجبه له عن كل من دونه دال على تمام قدرته، واجتماع الأمرين مستلزم لبعده عن الظلم، وأنه لا يصح اتصافه به، فلا بد من إقامته لها ليوفي كل ذي حق حقه، ويأخذ لكل مظلوم ظلامته غير متعتع.
ولما كانوا ينازعون في وقوعها فضلاً عن العلم بها، عدها أمراً محققاً مفروغاً منه وذكر ما يدل على شمول علمه لكل حادث في وقته دليلاً على علمه بما يعين وقت الساعة، وذلك على وجه يدل على قدرته عليها وعلى كل مقدور بما لا نزاع لهم فيه من