صفحة رقم ١٠٤
[ الزمر : ٣ ] ولو قدم الهوى لكان المعنى أنه حول وصفه إلى الألوهية فاضمحل الهوى، ولم يبق إلا ما ينسب إلى الإلهية كما اضمحل الطين في : اتحدث الطين حرقاً، فصار المعنى أن العابد لا يتحرك إلا بحسب ما يأمره به الإله ويصير التركيب يفيد تعظيمه بغلبة الإثبات وإذهاب الهوى غاية الإذهاب، ولو كان التقديم في هذا لحسب السياق من غير اختلاف المعنى لقدم هنا الهوى لأن السياق والسباق له وقد تقدم في سورة الفرقان ما ينفع هنا ومفعول ( رأى ) الثاني مقدر يدل عليه قوله آخر الكلام ) فمن يهديه ( تقديره : أيمكن أحداً غير الله دايته ما دام هواه موجوداً، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه - انتهى.
ومعناه أنه يهوي بصاحبه في الهواء الممدود وهو الفضاء، أي ينزل به عن درجة عليا إلى ما دونها.
فهو في سفول ما دام تابعاً له لأنه بحيث لا قرار ولا تمكن، فلذلك هو يوجب الهوان، قال الأصبهاني : سئل ابن المقفع عن الهوى، فقال : هوان سرقة نونه، فنظمه من قال :
نون الهوان من الهوى مسروقة وأسير كل هوى أسير هوان
وقال آخر ولم يخطىء المعنى وأجاد :
إن الهوى لهو الهوان بعينه فإذا هويت فقد لقيت هوانا
) وأضله الله ) أي بما له من الإحاطة ) على علم ( منه بما فطر عليه من أنه لا يكون أثر بلا مؤثر، ومن أنه لا يكون منفرداً بالملك إلا وهو مستحق للتفرد بالعبادة، وهو أنه لم يخلق الكون إلا حكيم، وأن الحكيم لا يدع من تحت يده يبغي بعضهم على بعض من غير فصل بينهم لا سيما وقد وعد بذلك ولا سيما والوعد بذلك في أساليب الإعجاز التي هم أعرف الناس بها، أو على علم من المضل بأن الضال مستحق لذلك لأنه جبله جبلة شر.
ولما كان الضال أحوج إلى سماع صوت الهادي منه إلى غيره، وكان من لا ينتفع بما هو له في حكم العادم له قال :( وختم ) أي زيادة على الإضلال الحاضر ) على سمعه ( فلا فهم له في الآيات المسموعة.
ولما كان الأصم قد يفهم بالإشارة قال :( وقلبه ) أي فهو لا يعي ما من حقه وعيه.
ولما كان المجنون الأصم قد يبصر مضاره ومنافعه فيباشرها مباشرة البهائم قال :( وجعل على بصره غشاوه ( فصار لا يبصر الآيات المرئية، وترتيبها هكذا لأنها في سياق الإضلال كما تقدم في البقرة.
ولما صار هذا الإنسان الذي صار لا يسمع الهادي فيقصده ولا يعي المعاني لينتفع بما تقدم له علمه، ولا يبصر حق البصر ليهتدي ببصره دون رتبة الحيوان، قال تعالى منكراً مسبباً للإنكار عما تقدمه :( فمن يهديه ( وأشار إلى قدرة الله عليه بقوله :( من