صفحة رقم ١٧١
الكتاب وغيرهم، فقلبوا وجوه الأمور إلى ظهورها، فوقعوا في الضلال فكفروا.
ولما كان الذي يلامون عليه ترك ما أتاهم به النبي ( ﷺ ) مما أوحاه الله سبحانه إليه من الشريعة، لا ما في غرائزهم من الملة التي يكفي في الهداية إليها نور العقل، وكان الذم لاحقاً بهم ولو كان ارتدادهم في أدنى وقت، أثبت الجار فقال :( من بعد ما تبين ( غاية البيان الذي لا خفاء معه بوجه وظهر غاية الظهور ) لهم ( بالدلائل التي هي من شدة ظهورها غنية عن بيان مبين ) الهدى ) أي الذي أتاهم به رسولنا ( ﷺ ).
ولما كانوا قد أحرقوا بذلك أنفسهم وأبعدوها به غاية البعد عن كل خير، عبر عن المغوي بما يدل على ذلك فقال تعالى :( الشيطان ) أي المتحرق باللعنة البعيد من الرحمة ) سول ) أي حسن ) لهم ( بتزيينه وإغوائه الذي حصل لهم منه استرخاء في عزائمهم وفتور في هممهم فجروا معه في مراده في طول الأمل، والإكثار من مواقعه الزلل والأماني من جميع الشهوات والعلل، بعد أن زين لهم سوء العمل، بتمكين الله له منهم، وهذا لما علم سبحانه منهم حال الفطرة الأولى ) وأملى لهم ) أي أطال في ذلك ووسع بتكرار ذلك عليهم على تعاقب الملوين ومر الجديدين حتى نسوا المواعظ وأعرضوا عن الذكر هذا على قراءة الجماعة بفتح الهمزة واللام، وأما على قراءة البصريين بضم الهمزة وكسر اللام فالمراد أن الله تعالى هو المملي - أي الممهل - لهم بإطالة العمر وإسباغ النعم، وتسهيل الأماني والحلم، عن المعاجلة بالنقم، حتى اغتروا، وهي أيضاً موافقة لقوله تعالى
٧٧ ( ) سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين ( ) ٧
[ القلم : ٤٥ ]، وأما في قراءة أبي عمرو بفتح الياء فهو فعل ماض مبني للمفعول، ودل على أن المملي هو الله سبحانه وتعالى قراءة يعقوب بإسكان الياء على أنه مضارع همزته للمتكلم.
ولما بين تسليطه الشيطان عليهم، بين سببه فقال :( ذلك ) أي الأمر البعيد من الخير وما دل عليه صريح العقل ) بأنهم ) أي بسبب أن هؤلاء المتولين ) قالوا للذين كرهوا ما ) أي جميع ما ) نزل الله ) أي الملك الأعظم على التدريج بحسب الوقائع تنزيلاً فيه إعجاز الخلق في بلاغة التركيب مع فصاحة المفردات وجزالتها مع السهولة في النطق والعذوبة في السمع والملاءمة للطبع كما يشهد به كل ذوق من الأغبياء والأذكياء على تباينهم في مراتب الغباوة والذكاء، وإعجاز آمخر لهم في رصانة المعنى وحمته، وثالث في مطابقته للحال الذي اقتضى نزوله مطابقة يعجز الخلق عن الإتيان بمثلها، ورابع بنظمه مع ما نزل قبله من الآيات، لا على ترتيب النزول، بل على ما اقتضته الحكمة التي تتضاءل دونها الأفكار، وتولى خاسئة من جلالتها على الأدبار، بصائر أولي


الصفحة التالية
Icon