صفحة رقم ١٨٢
في الذل والهوان، وقد جرت عادتكم أن يداخلكم من السرور ما لا يجد إذا طلب من أحد منكم أحد من الأجواد الأغنياء شيئاً طمعاً في جزائه، فكونوا كذلك وأعظم إذا طلب منكم الغنى المطلق.
ولما كان التقدير : فإن تقبلوا بنولكم تفلحوا عطف عليه قوله مرهباً لأن الترهيب أردع :( وإن تتولوا ) أي توقعوا التولي عنه تكلفوا أنفسكم ضد ما تدعو إليه الفطرة الأولى من السماح بذلك الجزاء اليسير جداً الموجب للثواب الخطير والفوز الدائم، ومن الجهاد في سبيله، والقيام بطاعته، لكونه المحسن الذي لا محسن في الحقيقة غيره ) يستبدل ) أي يوجد ) قوماً ( فيهم قوة وكفاية لما يطلب منهم محاولته.
ولما كان ذلك مفهماً أنهم غيرهم، لكنه لا يمنع أن يكونوا - مع كونهم غير أعيانهم - من قومهم أو أن يشأ دونهم في الصفات وإن كانوا من غير قومهم، نبه على أنهم يكونون من غير قومهم وعلى غير صفاتهم، بل هم أعلى منهم درجة وأكرم خليقة وأحسن فعلاً فقال تعالى :( غيركم ) أي بدلاً منكم وهو على غير صفة التولي.
ولما كان الناس متقاربين في الجبلات، وكان المال محبوباً، كان من المستبعد جداً أن يكو نهذا البذل على غير ما هم عليه، قال تعالى مشيراً إلى ذلك بحرف التراخي تأكيداً لما أفهمه ما قلته من التعبير ب ( غير ) وتثبيتاً له :( ثم ) أي بعد استبعاد من يستبعد وعلوا الهمة في مجاوزة جميع عقبات النفس والشيطان :( لا يكونوا أمثالكم ( في التولي عنه بترك شيء مما أمر به أو فعل شيء مما نهى عنه، ومن قدر على الإيجاد قدر على الإعدام.
بل هو أهون في مجاري العادات، فقد ثبت أنه سبحانه لو شاء لانتصر من الكفار، إما بإهلاكهم أو إما بناس غيركم بضرب رقابهم وأسرهم، وغير ذلك من أمرهم، وثبت بمواصلة ذم الكفار مع قدرته عليهم أنه أبطل أعمالهم، فرجع بذلك أول السورة غلى آخرها، وعانق موصله ما ترى من مفصلها، وعلم أن معنى هذا الآخر وذلك الأول أنه سبحانه لا بد من إذلاله للكافرين وإعزازه للمؤمنين لأنهم إن أقبلوا على ما يرضيه فجاهدوا نصرهم نصراً عزيزاً بما ضمنه قوله تعالى ) إن تنصروا الله ينصركم وثبت أقدامكم ( وإن تتولوا أتى بقوم غيركم يقبلون عليه فيصدقهم وعده، فصار خذلانهم أمراً متحتماً، وهو معنى أول سورة محمد - والله الموفق لما يريد من الصواب.
...


الصفحة التالية
Icon