صفحة رقم ٢٧٣
طرائق السماء التي لا تكاد تنتظم، ولا يعرف أولها من آخرها، واختلاف هذه الأشياء المقسم بها من أول السورة واختلاف غاياتها لكنه مع ذلك متدافع، وإن كنتم تجتهدون في تزيينه وتقريبه للأفهام وتحسينه فإنه لا يكاد إذا عرضه الناقد على الفكر النافذ ينضبط بضابط ولا يرتبط برابط، بل تارة تقولون : هذا شعر فيلزمكم وصفه بما تصفون به الشعر من الاتساق بالوزن المجرد والروي المتحد، والعذوبة والرشاقة، وتارة تقولون : هذا سحر فيلزمكم مع الإفرار بالعجز عنه أنه لا حقائق له والواقع أنه لا يتأمله ذو فهم إلا رأى حقائقه أثبت من الجبال، وتارة تقولون : أضغاث أحلام، فيلزمكم أنه لا ينضبط بضابط، ولا يكون له مفهوم يحصل، ولا يعجز أحد عن تلفيق مثله، فقد أبطلتم قولكم : إنه شعر وإنه سحر.
وارة تقولون : إنه كهانة فيلزمكم أن تعتقدوا منه ما تعتقدون في أقوال الكهان من الغخبار باملغيبات وإظهار الخبء وفصل الحكم، فقد نقضتم جميع أقوالكم الماضية وناديتم على أنفسكم بالمباهتة، تقولون في الآتي به : إنه شاعر وساحر ومجنون وكاهن وكاذب، وكل قول منها ينقض الآخر، وأنتم تدعون أنكم أصدق الناس وأبعدهم عن عار الكذب، وأنكم أعقل الناس وأنصفهم، فقد تباعد أولاً ما بين أقوالكم، ثم ما بينها وبين أفعالكم، فكان اختلاف طرائق النجوم دالاًّ على مانع مختار تام العلم كامل القدرة، وكذا اختلاف قولكم على هذا الوجه مع ما لكم من العقول دالّ على قاهر لكم على ذلك، فهما آيتان في الآفاق وفي أنفسكم.
الذاريات :( ٩ - ١٨ ) يؤفك عنه من.....
) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( ( )
ولما كان هذا الاختلاف مما لا يكاد يصدق لأنه لا يقع فيه عاقل، بين سببه بأنهم مغلوبون عليه بقهر يد القدرة فقال :( يؤفك ) أي يصرف بأيسر أمر وأسهله عن سنن الاستقامة، ويقلب من وجهه لقفاه ) عنه ) أي يصدر صرفه عن هذا القول مجازاً لما يلزمه من عاره، فهو لأجل ذلك يقوله ) من أفك ) أي قلبه قلب قاهر أي تبين بهذا الصرف الذي هو أعظم الصرف أنه حكم في الأزل حكماً ثابتاً جامعاً، فصار لا يصد عنه قول ولا فعل إلا كان مقلوباً وجهه إلى قفاه لا يمكن أن يأتي منه بشيء على وجهه، فكأنه لا مأفوك سواه لشدة افكه وعجيب أمره.