صفحة رقم ٢٧٧
علم أنه عبد، ومتى علم ذلك علم أن له رباً غير محتاج، ومن أبصر جميع الصفات والأسماء فنفذ فهمه في شفاف الكائنات، فارتقى إلى أعلى الدرجات.
ولما بان بما قدمته في ) المقسمات أمراً ( ما في جهة العلو من الأسباب الموجبة للنعمة والعذاب، قال :( وفي السماء ) أي جهة العلو ) رزقكم ( بما يأتي من المطر والرياح والحر والبرد وغير ذلك مما رتبه سبحانه لمنافع العباد ) وما توعدون ( وجميع ما أتتكم به الرسل من الوعد والوعيد والصعقة والزلزال وغير ذلك من الأهوال وموجبات النكال، وكذا الرحمة والخير والنعمة وكل ما يتعلق به الآمال، فكما أنكم تصدقون بذلك وأنتم لا ترونه فكذلك صدقوا بالجنة والنار وإن لم تروها، فإنه لا فرق بين ماء ينزله الله فيكون منه رياض وجنات وشك وأدواء ومرارات، وسموم وعقارب وحيات، وخشاش وسباع وحشرات، وبين ماء يعيد به الأموات، ثم يحشرهم إلى جنان ونيران، فكما أنه لا مرية في إظهار هذا الغيب فكذلك لا لبس في إظهار ذلك الغيب، ومن المعنى أيضاً أنك لا تشتغل برزق فإنه في السماء، ولا سبيل لك إلى العروج إليها، واشتغل بما كلفته من الخدمة لمن عنده الرزق ففي السماء الرزق وإليها يرفع العمل، فإن أردت أن ينزل إليك رزقك فأصعد إليها الصالح من عملك، ولهذا قالوا : الصلاة فرع باب الرزق ) واصطبر عليها لا نسئلك رزقاً نحن نرزقك (.
ولما أقسم بما له من المقدورات لمن وقف مع المحسوسات المشهورات، فترقوا بذلك إلى أعلى الدرجات، وانكشف ما له من الكمال انكشافاً تاماً، وعلم أن في خزائنه سبحانه كل ما أخبرت عنه به الرسل من وعد ووعيد، سبب عنه قوله مقسماً بنفسه الأقدس لكن بصفة مألوفة فقال :( فورب ) أي مبدع ومدبر ) السماء والأرض ( بما أودع فيهما مما علمتموه وما لم تعلموه ) إنه ) أي الذي توعدونه من الخير والشر والجنة والنار وتقدم الإقسام عليه أنه صادق ) لحق ) أي ثابت يطابقه الواقع فقد جمع الحق مع الصدق ) مثل ما أنكم ) أي وأنتم مساوون لبقية ما في الأرض من الجمادات وغيرها ) تنطقون ( نطقاً مجدداً في كل وقت مستمراً، ليس هو بخيال ولا سحر، أي أن ذلك لحق مثل ما أن هذا حق، فالذي جعل لكم قوة النطق من بين ما في الأرض بأسباب لا ترونها وتحصونها، ومع ما عداكم من ذلك بأسباب مثل ذلك قادر على الإتيان بوعده من الرزق وغيره ما دمتم تحتاجون إلى ذلك بما جعل فيكم من الحياة التي يصح بها العلم الناشىء عنه النطق المحوج إلى الرزق من أي جهة أرادوا، وإن لم تروا أسبابه كما أنه لو أراد لأنطق جمكيع من في السموات والأرض من الجمادات بما يقيمه لها من الأسباب التي أقامها لكم وإن لم تروا ذلك.