صفحة رقم ٣٨٨
بدليل أنهم لا يصلون إلى جميع مرادهم مما هو في مقدورهم، ولكنه ستر ذلك بالأسباب التي يوجد التقيد بها إسناد الأمور إلى مباشرتها فقال بيناً للمراد بالثقلين :( يا معشر ) أي يا جماعة فيهم الأهلية والعشرة والتصادق ) الجن ( قدمهم لمزيد قوتهم ونفوذهم في المسام وقدرتهم على الخفاء والتشكل في الصور بما ظن أنهم لا يعجزهم شيء ) والإنس ) أي الخواص والمستأنسين والمؤانسين المبني أمرهم على الإقامة والاجتماع. ولما بان بهذه التسمية المراد بالتثنية، جمع دلالة على كثرتهم فقال :( إن استطعتم ) أي إن وجدت لكم طاعة الكون في ) أن تنفذوا ) أي تسلكوا بأجسامكم وتمضوا من غير مانع يمنعكم ) من أقطار ) أي نواحي ) السموات والأرض ( التي يتخللها القطر لسهولة انفتاحها لشي تريدونه من هرب من الله من إيقاع الجزاء بينكم، أو عصيان عليه في قبول أحكامه وجري مراداته وأقضيته عليكم من الموت وغيره أو غير ذلك ) فانفذوا ( وهذا يدل على أن كل واحدة منها محيطة بالأخرى لأن النفوذ لا يكون حقيقة إلا مع الخرق.
ولما كان نفوذهم في حد ذاته ممكناً ولكنه منعهم من ذلك بأنه لم يخلق في أحد منهم قوته ولا سيما وقد منعهم منه يوم القيامة بأمور منها إحداق أهل السماوات السبع بهم صفاً بعد صف وسرادق النار قد أحاط بالكافرين ولا منفذ لأحد إلا على الصراط ولا يجوزه إلا كل ضامر يخف، أشار إليه بقوله مستأنفاً :( لا تنفذون ) أي من شيء من ذلك ) إلا بسلطان ( إلا بتسليط عظيم منه سبحانه بأمر قاهر وقدرة بالغة وأنى لكم بالقدرة على ذلك، قال البغوي : وفي الخبر : يحاط على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون : يا معشر الجن الآية.
انتهى، وهذا حكاية ما يكون من ذلك يوم القيامة له أنه خاص بهم.
ولما كان هذا نظرهم فيما بينهم وبين بقية الحيوانات بما أعطاهم من القوى الحسية والمعنوية وما نصب لهم، المصاعد العقلية والمعارض النقلية التي ينفذون بها إلى غاية الكائنات ويتخللون بما يؤديهم إليه علمها إلى أعلى المخلوقات، ثم نظرهم فيما بين الحيوانات وبين النباتات ثم بينها وبين الجمادات دالاًّ دلالة واضحة على أنه سبحانه وتعالى يعطي من يشاء من يشاء، فلو أراد قواهم على النفوذ منها، ولو قواهم على ذلك لكان من أجل النعم، وأنه سبحانه قادر على ما يريد منهم، فلو شاء أهلكم ولكنه يؤخرهم إلى آدالهم حلماً منه وعفواً منه عنهم، سبب عن ذلك قوله :( فبأيّ آلاء ربكما ) أي المحسن إليكما المربي لكما بما تعرفون به قدرته على كل ما يريد


الصفحة التالية
Icon