صفحة رقم ٤٠٧
ولما كان مدحهم هذا في غاية الإبلاغ مع الإيجاز، وكان فيه - إلى تبليغ ما لهم - تحريك إلى مثل أعمالهم، وكان الأكل الذي هو من أعظم المآرب مشاراً إليه بالمدح العظيم الذي من جملته الاستراحة على الأسرة التي علم أن من عادة الملوك أنهم لا يتسنمونها إلا بعد قضاء الوطر منه فلم يبق بعده إلا ما تدعو الحاجة إليه من المشارب وما يتبعها قال تعالى :( بأكواب ) أي كيزان مستديرة الأفواه بلا عرى ولا خراطيم لا يعوق الشارب منها عائق عن الشرب من أي موضع أراد منها فلا يحتاج أن يحول الإناء إلى الحالة التي تناوله عنها ليشرب، ويمكن أن تكون البدأة بالشراب لما نالوا من المتاعب من العطش كما لمن يشرب من الحوض فيكون حينئذ قبل الأكل والله أعلم ) وأباريق ) أي أواني لها عرى وخراطيم فيها من أنواع المشارب ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ) وكأس ) أي إناء معد للشرب فيه والشراب نفسه.
ولما كان الشراب عاماً بينه بقوله :( من معين ) أي خمر جارية صافية صفاء الماء ليس يتكلف عصرها بل ينبع كما ينبع الماء.
ولما أثبت نفعها وما يشوق إليها، نفى ما ينفر عنها فقال :( لا يصدعون ) أي تصدعاً يوجب المجاوزة ) عنها ) أي بوجع في الرأس ولا تفرق لملالة ) ولا ينزفون ) أي يذهب بعقولهم بوجه من الوجوه أي يصرع شرابهم، من نزفت البئر - إذا نزح ماؤها كله، ونزف فلان : ذهب عقله أو سكر، وبنى الفعلان لملجهول لأنه لم تدع حاجة إلى معرفة الفاعل، وقال الرازي في اللوامع : قال الصادق : لا تذهل عقولهم عن موارد الحقائق عليهم ولا يغيبون عن مجالس المشاهدة بحال.
ولما بدأ بالألذ الهاضم للأكل، تلاه بما يليه مما يدعو إليه الهضم تصريحاً به بعد التلويح فقال :( وفاكهة مما يتخيرون ) أي هو فيها بحيث لو كان فيها جيد وغيره واختاروا وبالغوا في التنقية لكان مما يقع التخير عليه، ولما ذكر ما جرت العادة بتناوله لمجرد اللذة، أتبعه ما العادة أنه لإقامة البينة وإن كان هناك لمجرد اللذة أيضاً فقال :( ولحم طير ( ولما كان في لحم الطير مما يرغب عنه، احترز عنه بقوله :( مما يشتهون ) أي غاية الشهوة بحيث يجدون لآخرة من اللذة ما لأوله.
ولما كان لم يكن بعد الأكل والشرب أشهى من الجماع، قال عاطفاً على ) ولدان ( :( وحور العين ) أي يطفن عليهم، وجره حمزة والكسائي عطفاً على ) سرر ( فإن النساء في معنى التكاء لأنهن يسمين فراشاً.
ولما كان المثل في الأصل الشيء نفسه كما مضى في الشورى قال :( كأمثال ) أي مثل أشخاص ) اللؤلؤ المكنون ) أي المصون في الصدف عما قد يدنسه.


الصفحة التالية
Icon