صفحة رقم ٥٥٨
وهيجت على المفارقة للعصاة والتبرء منهم حساً ومعنى، وإظهار ذلك لهم قولاً وفعلاً، إلى أن تحصل التوبة، ومن لم يفعل ذلك كان شريكاً في الفعل فيكون شريكاً في الجزاء كما ورد، ثم لا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وجليسه، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على ألسنة الأنبياء، ومن فعل ما أمره الله به كان فعله جديراً بأن يكون سبب الوصله والقرب والمودة، فالآية من الاحتباك : ذكر الرجاء أولاً دليلاً على ضده ثانياً، والتولي ثانياً دليلاً على ضده أولاً، وسره أنه ذكر سبب السعادة ترغيباً وسبب الشقاوة ترهيباً.
ولما أتم وعظهم بما هو الأنفع والأقرب إلى صلاحهم ففعلوا، وكان ذلك شاقاً لما جبل عليه البشر من حب ذوي الأرحام والعطف عليهم، فتشوفت النفوس إلى تخفيف بنوع من الأنواع، أتبعه الترجئة فيما قصد حاط رضي الله عنه بغير الطريق الذي يتوصل به فقال على عادة الملوك في الرمز إلى ما يريدونه فيقنع الموعد به بل يكون ذلك الرمز عنده أعظم من البت من غيرهم لما لهم نم العظمة التي تقتضي النزاهة عما يلم بشائبه نقص، وذلك أعظم في الإيمان بالغيب لأن الوعود لا توزال بين خوف ورجاء جاوباً لمن كأنه كان يقول : كيف يكون الخلاص من مثل هذه الواقعة وقد بنيت يا رب هذه الدار على حكمة الأسباب :( عسى الله ) أي أنتم جديريون بأن تطمعوا في الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ) أن يجعل ( بأسباب لا تعلمونها ) بينكم وبين ) أي في جميع الحد الفاصل بين المجموعين أو بين كل شخصين من الجمعين ) الذين عاديتم ) أي بالمخالفة في الدين ) منهم ) أي من هؤلاء الذين عادوكم بما تقدم بأعيانهم من أهل مكة ) مودة ( وقد جعل ذلك علام الفتح تحقيقاً لما رجاه سبحانه، وأجرى سنته الإلهية بأن من عادتيه فيه جعل عاقبة ذلك إلى ولاية عظيمة، ومن تهاونت في مقاطعته فيه سبحانه أقامه لك ضداً.
ولما كان التقدير : فالله بكم رفيق، عطف عليه تذكيراً لهم بما له سبحانه من العظمة قوله ) والله ) أي الذي له الأحاطة بالكمال :( قدير ) أي بالغ القدرة على كل ما يريده فهو يقدر على تقليب القلوب وتيسير العسيرن فملا تم الرجاء لم يبق إلا كدر الذنب فأتبعه تطييباً للقلوب مما نزلت هذه الآيات بسببه قوله :( والله ) أي الذي له جميع صفات الكمال ) غفور ) أي محاء لأعيان الذنوب وآثارها ) رحيم ( يكرم الخاطئين إذا أراد بالتوبة ثم بالجزاء غاية الإكرام، قال الرازي في اللوامع : كان النبي ( ﷺ ) استعمل أبا سفيان رضي الله عنه على بعض اليمن، فلما قبض رسول الله ( ﷺ ) أقبل فلقي ذا الحجار مرتداً فقاتله، فكان أول من قاتل على لردة، فتلك المودة بعد المعادة.