صفحة رقم ١٥٨
بتزكية أنفسهم بما تقدم من هذه الخلال التي حض عليها الملك المتعال، روى البغوي بسنده عن بشر بن حاش رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( ﷺ ) :( وبصق يوماً في كفه ووضع عليها أصبعه فقال :( يقول عز وجل : ابن آدم أنّى تعجزني وقد خلتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين والأرض منك وئيد وجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت : أتصدق، وأنّى أوان الصدقة ( انتهى.
ولما كان في ذكر هذا الخلق مع ما تقدم إشار عظيمة إلى ما كانوا يقولون : إنه إن كان الأمر كما يقولون من الحشر والجنة لنكونن آثر عند الله منكم ولندخلنها كما نحن على أن الكل متساوون في أنهم من نطفة فما فضلهم في هذه الدنيا بهذه النعم الظاهرة إلا هو سبحانه، وقد فضل المؤمنين بالنعم الباطنة التي زادتهم في التمكن فيها التزكية بهذه الأوصاف العملية الناشئة عن الصفة العلمية، وهو قادر على أن يضم إلى النعم الباطنة النعم الظاهرة، ولذلك سبب عنه قوله : وأكد بنفي القسم المشير إلى عدم الحاجة إليه لكثرة الأدلة المغنية عنه لما لذلك المقسم عليه من الغرابة في ذلك الوقت لكثرة الكفار وقوة شوكتهم :( فلا ) أي فتسبب عن خلقنا لهم من ذلك المنبه على أنا نقدر على كل شيء نريده وأنه لا يعجزنا شيء أي لا ) أقسم ( فلفت القول إلى أفراد الضمير معرى عن مظهر العظمة لئلا يتعنت متعنت في أمر الواحدانية ) برب ) أي مربي وسيد ومبدع ومدبر ) المشارق ( التي تشرق الشمس والقمر والكواكب السيارة كل يوم في موضع منها على المنهاج الذي دبره، والقانون القويم الذي أتقنه وسخره، ستة أشهر صاعدة وستة أشهر هابطة ) والمغارب ( كذلك على هذا الترتيب المحكم الذي لا يعتريه اختلال، وهي التي ينشأ عنها الليل والنهار والفصول الأربعة، فكان بها صلاح العالم بمعرفة الحساب وإصلاح المآكل والمشارب وغير ذلك من المآرب، فيوجد كل من الملوين بعد أن لم يكن والنبات من النجم والشجر كذلك عادة مستمرة دالة على أنه قادر على الإيجاد والإعدام لكل ما يريده كما يريده من غير كلفة ما.
ولما كان المعنى : لا أقسم بذلك وإن كان عظيماً لأن الأمر في وضوحه لا يحتاج إلى قسم، كما لو قال خصم لخصمه : احلف، فيقول له : الأمر غني عن حلفي إذ يحتاج إلى اليمين من لا بينة له، ثم يأتي من البينات بما لا يكون معه شبهة، وكانوا في تفضيل أنفسهم - مع الاعتراف لله بالقدرة - كالمنكرين للقدرة على قلب الأمر، أكد قوله عائداً على مظهر العظمة بعد دفع اللبس بما هو في وضوحه أجلى من الشمس :( إنا ) أي بما لنا من العظمة ) لقادرون ( بأنواع التأكيد بالأداة والأسمية والالتفات إلى مظهر