صفحة رقم ٢٥٧
أسدى إليه، فإن ذلك منافٍ للحكمة، فإنها تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن المساوئ والجزاء على كل منهما، وأكثر الظالمين والمظلومين يموتون من غير جزاء، فاقتضت الحكمة ولا بد البعث للجزاء.
ولما كان الإنسان يجري على ما في طبعه من النقائص فيغفل عما خلق له فتتراكم عليه ظلماته فيبعد عن علم ذلك إما بجهل بالحكمة أو بجهل بالقدرة، رحمه سبحانه بإعادة البرهان على المعاد بأمر يجمع القدرة والحكمة، وذلك أنه لا يجوز في عقل عاقل أن صانعاً يصنع شيئاً ويتركه ضياعاً وهو حكيم أو حاكم فكيف بأحكم الحكماء والحاكمين فقال منكراً عليه ظنه أنه يهمله سبحانه مع علمه بصنائعه المحكمة فيه، مقرراً أحوال بدايته التي لا يسوغ معها إنكار إعادته لأنها أدل على أنه لا مانع منها أصلاً، حاذفاً نون الكون إعلاماً بأن الأمر في هذه النتيجة العظمى ضاق عن أقل شيء يمكن الاستغناء عنه كراهية التمادي من الموعوظ على ما وعظ لاجله فيحصل له الهلاك، وإشارة إلى مهانة أصله وحقارته :( ألم يك ) أي الإنسان ) نطفة ) أي شيئاً يسيراً جداً ) من مني ) أي ماء من صلب الرجل وترائب المرأة مقصود ومقدر من الله لابتلاء إخرادجها بما ركب فيه من الشهوة وجعل له من الروح التي يسرها لقضاء وطره منها حتى أن وقت صبها في الرحم انصبت منه بغير اختياره حتى كأنه لا فعل له فيها أصلاً، ولذلك بنى الفعل لما لم يسم فاعله، ولما كان تكثير تلك النطفة وتحويلها أمراً عظيماً عجيباً، أشار إليه بأداة البعد مع إفادتها للتراخي في الزمان أيضاً فقال :( ثم كان ) أي كوناً محكماً ) علقة ) أي دماً أحمر عبيطاً شديد الحمرة والغلظة ) فخلق ) أي قدر سبحانه عقب ذلك لحمه وعظامه وعصبه وغير ذلك من جواهره وأعراضه ) فسوى ) أي عدل عن ذلك خلقاً آخر غاية التعديل شخصاً مستقلاً.
ولما كان استعبادهم للقيام إما لاستبعاد القدرة على إعادة الأجزاء بعد تفرقها أو لاستبعاد القدرة على تمييز ترابها من تراب الأرض بعد الاختلاط، وكان تمييز النطفة إلى ذكر وأنثى كافياً في رد الاستبعادين قال :( فجعل ) أي بسب بالنطفة ) منه ) أي هذا الماء الدافق أو المخلوق المسوى وهما شيء واحد ) الزوجين ) أي القرينين اللذين لا يمكن الانتفاع بأحدهما إلا بالآخر، ثم بينهما بقوله :( الذكر والأنثى ( وهما كما تعلمون متباينان في الطباع مختلفان في أوصاف الأعضاء والآلات والمتاع، كما لم يترك النطفة حتى صيرها علقة ولا ترك العلقة حتى صيرها مضغة ولا ترك المضغة حتى صيرها عظاماً ولم يترك العظام حتى صيرها خلقاً آخر إلى تمام الخلقة لتمام الحكمة الظاهرة وفصلها


الصفحة التالية
Icon