صفحة رقم ٢٨٦
يوعد به بعد البعث، أتبعه الدلالة بابتداء الخلق وهو أدل فقال مقرراً ومنكراً على من يخالف علمه بذلك عمله :( ألم نخلقكم ) أي أيها المكذبون بما لنا من العظمة التي لا تعشرها عظمة ) من ماء مهين ) أي نطفة مذرة ذليلة، وهو من مهن بالفتح، قال في القاموس : والمهين : الحقير الضعيف والقليل ) فجعلناه ) أي بما لنا من العظمة بالإنزال لذلك الماء في الرحم ) في قرار مكين ) أي محفوظ مما يفسده من الهواء وغيره ومددنا ذلك لأجل التطوير في أطوار الخلقة والتدوير في أدوار الصنعة ) إلى قدر ) أي مقدار من الزمان قدره الله تعالى للولادة ) معلوم ) أي عندنا من تسعة أشهر للولادة إلى ما فوقها أو دونها لا يعلمه غيره.
ولما كان هذا عظيماً ترجمه وبينه معظماً له بقوله :( فقدرنا ) أي بعظمتنا على ذلك أو فجعلناه على مقدار معلوم من الأرزاق والآجال والأعمال ) فنعم القادرون ( نحن مطلقاً على ذلك وغيره، أو المقدرون في تلك المقادير لما لنا من كمال العظمة بحيث نجعل ذلك بمباشرة من أردناه منه بطوعه واختياره.
ولعل التعبير بما قد يفيد مع العظمة الجمع لما أقام سبحانه في ذلك من الأسباب بالملائكة وغيرها، وفيه مع ذلك ابتلاء للعباد الموحد منهم والمشرك :( ويل يومئذ ) أي إذ كان ذلك ) للمكذبين ) أي بالناشرات التي نشرت تلك النفوس وكل ما يراد نشره وهم يعلمون قدرتنا على ما ذكر وتقديره من ابتدائنا لخلقهم وغيره مما يفيد كمال القدرة وهم يكذبون بالبعث ولا يقيسونه بمثله.
ولما دل بابتداء الخلق على تمام قدرته، أتبعه الدلالة بانتهاء أمره وأثنائه وانما دبر فيهما من المصالح فقال :( ألم نجعل ) أي نصير ما سببنا بما لنا من العظمة ) الأرض كفاتاً ) أي وعاء قابلة لجمع ما يوضع فيه وضمه جميعاً فيه فتك وهدم، وهو اسم لما يكفت من الحديد مثلاً أي يغلف بالفضة ويضم ويجمع، كالضمام والجماع لما يضم ويجمع، أو هو مصدرنعت به أوجمع كافتة، كصائمة وصيام أو جمع كفت وهو الوعاء، ولو شئنا لجعلناها ناشرة لكم إذا وضعتم فيها كما تنشر النبات، وسنجعل ذلك إذا أردنا البعث، ولما كان من المعلوم أنه حذف المفعول وهو لكم، أبدى حالة دالة أيضاً عليه فقال :( أحياء ) أي على ظهرها في الدور وغيرها ) وأمواتاً ) أي في بطنها في القبور وغيرها كما كنتم قبل خلق آدم عليه السلام.
ولما ذكر ما تغيبه من جبال العلم والملك وغيرهما، أتبعه ما تبرزه من الشواهق إعلاماً بأنه لو كان للطبيعة ما كان الأمر هكذا، فإنه لا يخرج هذه الجبال العظيمة على ما لها من الكبر والرسوخ والثقل والصلابة وغير ذلك من العظمة إلا الفاعل المختار، هذا إلى ما يحفظ في أعاليها من المياه التي تنبت الأشجار وتخرج العيون