صفحة رقم ٢٩٧
ولما حقق لهم أمره تحقيق من هو على غاية الوثوق بما يقول، دل على ذلك بما لا يحتمل شكاً ولا وقفة أصلاً، فقال مقرراً لهم ومنكراً عليهم التساؤل بما ندب إليه من التأمل وقرر به من النظر في باهر آياته وغرائب مخلوقاته التي أبدعها من العدم دلالة تامة عظمية على كمال القدرة مع تمام الحكمة الموجب للقطع بكل ما نبهت عليه الرسل من الشرائع والبعث والجزاء بادئاً بما هم له أشد ملابسة وهو الظرف :( ألم نجعل ) أي بما لنا من العظمة ) الأرض مهاداً ) أي فراشاً لكم موطئاً مذللاً يمكن الاستقرار عليه لتتصرفوا فيها كما شئتم ) والجبال ) أي تعرفون شدتها وعظمتها وعجزكم عن أقل شيء من أمورها ) أوتاداً ( تثبتها كما أن البيت لا يثبت إلا بأوتاده، قال الأفوه الأودي :
والبيت لا يبتنى إلا له عمد ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
وذلك لئلا تميد بكم فإنها معلقة على فضاء العلم ممسكة بيد القدرة، فلولا الجبال لعظم ثقلها لأنها بمنزلة السفينة العالية الفارغة على متن البحر فهي في غاية الحركة لا سيما إذا عظمت الريح فإنها حينئذ لا يستقر عليها قائم ولا يثبت قاعد ولا نائم، فالجبال بمنزلة الأمتعة الثقيلة التي تنزلها في الماء فتحفظ عن كثرة التقلب فكيف يصح بوجه أن يتوقف في إخبار من هذه قدرته لا سيما إذا كان ذلك المختبر به مما ركز سبحانه أمره في الفطرة الأولى وقرر صحته في العقول التقرير الأوضح الأجلى.
ولما ذكر بما في الظرف الذي هو فرشهم من الدلالة على تمام القدرة، أتبعه التذكير بما في المظروف وهو أنفسهم لتجتمع آيات الأنفس والآفاق فيتبين لهم أنه الحق فقال :( وخلقناكم ) أي بما دل على ذلك من مظاهر العظمة ) أزواجاً ( طوالاً وقصاراً وحساناً ودماماً وذكراناً وإناثاً لجميع أصنافكم على تباعد أقطارهم وتنائي ديارهم لتدوم أنواعكم إلى الوقت الذي يكون فيه انقطاعكم.
ولما ذكر ما هو سبب لبقاء النوع، ذكر ما هو سبب لحفظه من إسراع الفساد فقال :( وجعلنا ) أي بما لنا من العظمة ) نومكم ( الذي ركبنا البدن على قبوله ) سباتاً ) أي قطعاً عن الإحساس والحركة التي أتعبتكم في نهاركم مع الامتداد والاسترسال إراحة للقوى الحيوانية والحواس الجثمانية وإزاحة لكلالها مع أنه قاطع لكمال الحياة، فهو مذكر بالموتة الكبرى والاستيقاظ مذكر بالعبث، قال الزجاج : السبات أن ينقطع عن الحركة والروح فيه.
النبأ :( ١٠ - ١٦ ) وجعلنا الليل لباسا
) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً وَجَعَلْنَا