صفحة رقم ٤٠٨
نفس تلغو أو كلمة ذات لغو على الإسناد المجازي، بل المسموع فيها الذكر من التحميد والتمجيد والتنزيه لحمل ما يرى فيها من البدائع على ذلك مع نزع الحظوظ الحاملة على غيره من القلوب بما كانوا يكرهون من لغو أهل الدنيا المنافي للحكمة.
ولما وصف الجنة بأول ما يعتبر فيها وهو عدم المنغص، أتبعه ما يطلب بعده وهو تناول الملتذات، وكان الأكل قد فهم من ذكر لفظ الجنة، ذكر المشروب لذلك ولدلالته إذا كان جارياً على زيادة حسن الجنة وكثر ما فيها من النباتات المقيتة والمفكهة من النجم والأشجار والري الأطيار، فقال لأنه ليس كل جنة مما نعرفه فيه ماء جارٍ بنفسه :( فيها ) أي الجنة.
ولما كان الماء الجاري صالحاً لأن يقسم إلى أماكن كثيرة، وحد قوله المراد به الجنس الشامل للكثير مقابلة لعين أهل النار في دار البوار :( عين جارية ) أي عظيمة الجري جداً، فهي بحيث لا تنقطع أصلاً لما لأرضها من الزكاء والكرم وما لمائها من الغزارة وطيب العنصر، فهو صالح لأن يعم جميع نواحيها أقاصيها وأدانيها وإن عظم اتساعها وتناءت أقطارها وبقاعها، كما نراه يجري من ساق الشجرة الكبيرة جداً فيسقي جميع أغصانها وأوراقها وثمارها، ويزيد على ذلك بأن جريه من أسفل إلى فوق، يجدبه جادب الشوق ويسوقه أي سوق يقدره الخلاق العليم، والذي قدر على هذا كما هو مشاهد لنا لا نشك فيه قادر على أن يجعل هذه العين - الصالحة للجنس ولو كانت واحدة بالشخص - عامة لجميع مرافق الجنة تجري إلى خيامها ورياضها وبساتينها ومصانعها ومجالسها ويصعدها إلى أعالي غرفها وإن علت، مقسمة بحسب المصالح، موزعة على قدر المنافع، بغاية الإحكام بما كان لداخلها من الخضوع الذي يجري منهم الدموع ويقل الهجوع ويكثير الظمأ والجوع.
ولما لم يبق بعد الأكل والشرب إلا الاتكاء، قال مفهماً أنهم ملوك :( فيها ( معيداً الخبر قطعاً للكلام عن الأول تنبيهاً على شرف العين لأن الماء مما لا حياة بدونه ) سرر ) أي زائدة الحد في العكثرة، جمع سرير وهو مقعد عال يجلس عليه الملك ينقل إلى الموضع الذي يشتهيه، سمي بذلك لأنه يسر النفس، والمادة كلها للسرور والطيب والكرم، ولذلك يطلق على الملك والنعمة وخفض العيش ) مرفوعة ) أي رفعها رافع عظيم في السمك وهو جهة العلو ليرى الجالس عليها جميع ملكه وما نعم به وما شاء الله من غيره وفي القدر، لا كما تعهدونه في الدنيا، بل ارتفاعها نمط جليل من مقدار عظمة رافعها الذي رفع السماء، فالتنكير للتعظيم، وبنى الاسم للمفعول للدلالة على أنه ليس له من ذاتها إلا الانخفاض، وأما ارتفاعها فبقسر القادر على كل شيء، وهذا يدل على أنها كسماء لا عمد لها، قال البغوي : قال ابن عباس رضي الله عنهما :