صفحة رقم ٤٢٩
ولما كان الإنسان لا يفتخر بالإنفاق إلا إذا أفضى إلى الإملاق، فعلم أن مراد الإشارة إلى أن معه أضعاف ما أنفق من حيث إنه حقره بلفظ الإهلاك، إشارة إلى الثانية والثالثة من شهواته النفسية وهما إرادته أن يكون له الفخار والامتنان على جميع الموجودات، وإرادته أن يكون عنده من الأموال ما لا تحيط به الأفكار ولا تحويه الأقطار - كما يشير إليه حديث ( لو أن لابن آدم واد من ذهب ) و ( لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ) علل سبحانه وتعالى جهله في حسابه ذلك وما تبعه بقوله :( يقول ) أي مفتخراً بقدرته وشدته :( أهلكت مالاً لبدا ( ولقصد المبالغة في كثرته جاءت قراءة أبي جعفر بالتشديد على أنه جمع لا بد كركع وراكع فأفهمت أنه بحيث لا يحصى، بل لو جمع لم تسعه الأرض إلا بأن يكون بعضه على بعض فلا يعد ولا يحد، أي وذلك قليل من الكثير الذي معي، قلدت به أعناق الرجال المنن، واستعبدت به الأحرار في كل زمن، فصرت بحيث إذا دعوت كثير الملبي، وإذا ناديت كثير المجيب، وإذا أمرت عظم الممتثل، وفاء لصنائعي الماضية ورغبة في نعمي الباقية، فمن يستعصي عليّ ومن يخالف أمري، فضلاً عن أن يريد إخمال ذكري أو نقص قدري.
ولما كان الشيء لا يعني إلا إذا كان مجهولاً ولو من بعض الجهات، أنكر عليه هذا الظن تقدير وقوعه فإنه لا يوصل إلى ما ظنه إلا به، بقوله مشيراً إلى النفسية الرابعة، وهي أن تكون أموره مستورة فلا يظهر على غيه أحد أصلاً :( أيحسب ) أي هذا الإنسان العنيد بقلة عقله ) أن لم يره ) أي بالبصر ولا بالبصيرة في الزمن الماضي ) أحد ) أي في عمله هذا سره وجهره وجميع أمره، فينقص جميع ما عمل إذا أراد، وكل ما فاته من آثار هذه الشهوات الأربع، وهو لا يزال فائتاً له، كان من إرادة تحصيله في نكد ومعاناة وكبد بحيث يرمي نفسه من المساؤئ أعمال من يظن أنه لا يطلع عليه، فلذلك نبهه الله تعالى بأنواع التنبيه ليأخذ حذره ويحرز عمره.
ولما أنكر عليه سبحانه وتعالى هذه النقائص قرره على ما أوجب شهوته الحسية المتفرعة إلى أنواع بما يستلزم أن يكون فاعله له المانّ عليه به من بعض فيضه، عالماً بجميع أمره قادراً على نفعه وضره بنفسه وبمن أراد من جنده، فقال مشيراً إلى ما يترتب على نظر العين الباصرة الجائلة في العالم الحسي ونظر عين البصيرة الجائلة في العالم


الصفحة التالية
Icon