صفحة رقم ٤٣٤
وشماخة النفس على الإباء عن أن يكون تابعاً بعد ما كان متبوعاً، وسافلاً في زعمه إثر ما كان رفيعاً، بل سدد النظر الفكر فأيقن أنه يعلي نفسه من الحضيض إلى ما فوق السهى، يرقيها في درج المعالي إلى ما ليس له انتهاء،
٧٧ ( ) إن في ذلك لآيات لأولي النهى ( ) ٧
[ طه : ٥٤، ١٢٨ ] فحينئذ يعلم استقامة طبعه وكرم غريزته وعليَّ همته وحسن نيته وجميل طويته وغزارة عقله وجلالة نبله وفضله واستحقاقه التقدم على الأعلام في الجاهلية والإسلام، ولذلك كان الصديق رضي الله تعالى عنه أعلى الناس درجة بعد النبيين عليهم أفضل الصلاة والسلام والإكرام، لأن هذه كانت أفعاله رضي الله تعالى عنه قبل الإسلام كما قال ابن الدغنة حين وجده قد خرج من مكة المشرفة يريد الهجرة حين آذاه الكفار : إن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكلَّ وتعين على نوائب الحق - كما قالت خديجة رضي الله عنها للنبي ( ﷺ ) حين رجع إليها ترجف بوادره من تجلي جبريل عليه الصلاة والسلام له سواء، فلما سرب في رحيب مسربه، وشرب من صافي مشربه توفيقاً من الله تعالى لم يتعلثم حين دعاه إلى الدين ولا كانت عنده كبوة ولا تردد، ثم ترقى في درجات الإسلام إلى أعلى مرام بحيث قال يوم الحديبية لعمر رضي الله عنهما حين أظهر الكراهة للصلح ما قال له النبي ( ﷺ ) سواء حرفاً بحرف من غير أن يكون حاضره أو ينقل إليه كلامه، فسار حينئذ حائزاً قصب السبق، لا مطمع في مداناته، فكيف بلحاقه ومساواته، ولكماله وعظمته وجلاله لم يشرب قط خمراً، وكان إذا ليم على ذلك في الجاهلية قال لعشراء : والله لو وجدت شيئاً يزيد في عقلي لاشتريته بجميع مالي فكيف أشتري بمالي ما يزيل عقلي.
وتلك الأعمال لا تصح وإن كانت ممدوحة في كل حال إلا بالإيمان، أما إن كانت بعده فواضح، وأما إن كانت قبله فبانعطافه عليها كما قال ( ﷺ ) :( أسلمت على ما سلف منك من خير ) ولما كان الإيمان معلياً للإنسان عن درك الهوان إلى عظم الشأن، حاملاً له على محاسن الأعمال ومكارم الأفعال، وذلك أنه يقود إلى جميع شرائع الدين العظيمة الشأن، وكانت موجبة للجهاد الأكبر من حيث مخالفتها للطبع، وكان ذلك غير مقدور عليه إلا بالشجاعة وهي القوة الثالثة التي إذا هدئت أراحت، وكانت لا تكون إلا بعظيم الصبر، وكان الصبر لمرارته لا يدوم إلا بالتعاون قال تعالى :( وتواصوا ) أي صبروا وأوصى بعضهم بعضاً ) بالصبر ( في اقتحام عقبات الأعمال التي لا يجوزها إلا أبطال الرجال من الأمر بالمعروف إلى ما دونه وإن كان فيه الحتوف، فإن الشجاعة كما قيل صبر ساعة.


الصفحة التالية
Icon