صفحة رقم ٥٤٥
تعريفاً بأنهم بلغوا من الرذالة دركة ليس وراءها للحسد موضع ) الماعون ) أي حقوق الأموال والشيء اليسير من المنافع مثل إعارة التافه من متاع البيت التي جرت عادة الناس أن يتعاوروه بينهم، ويمنعون أهل الحاجة ما أوجب الله لهم في أموالهم من الحقوق، والحاصل أنه ينبغي حمل ذلك على منع ما يجب بذله مثل فضل الكلأ والماء والزكاة ونحوه ليكون موجباً للويل، وعلى الزكاة حمله علي وابن عمر رضي الله عنهما والحسن وقتادة، قال العلماء : هو مأخوذ من المعن، وهو في اللغة الشيء اليسير، ولذلك فسره بعضهم بالماء وبعضهم بما يعار على وجه الزكاة إلا شيء يسير جداً بالنسبة إليه، وقيل : هو كل عطية أو منفعة، وقال قطرب : هو فاعول من المعن، والمعن : المعروف، وقال أبو عبيدة : الماعون في الجاهلية العطاء والمنفعة وفي الإسلام الزكاة، وقال الهروي : قال ابن عباس رضي الله عنما : هو العارية - ذكر هذا الأستاذ عبد الحق الإشبيلي في كتابه الواعي، وقال ابن جرير : وأصل الماعون من كل شيء منفعته.
فدل ذلك على أنهم بلغوا نهاية التكذيب باستهانتهم بأعظم دعائم الدين واستعظامهم لأدنى أمور الدنيا، وهذا الآخر كما ترى هو الأول لأن الذي جر إليه هو التكذيب، ومن منع هذه الأشياء التافهه كان جديراً بأن يمنع ورود الكوثر في يوم المحشر، وكما التقى آخرها بأولها التقت السورة كلها مع مناظرتها في العدد من أول القرآن، وذلك أنه قد علم أن حاصل هذه السورة الإبعاد عن سفساف الأخلاق ورديها ودنيها من التكذيب بالجزاء الذي هو حكمة الوجود المثمر للإعراض عن الوفاء بحق الخلائق وطاعة الخالق، والانجذاب مع النقائص إلى الاستهانة بالضعيف الذي لا يستهين به إلا أنذل الناس وأرذلهم، والرياء الذي لا يلم به إلا من كان في غاية الدناءة، فكان ذلك موجباً للميل إلى أعظم الويل، وفي ذلك أعظم مرغب في معالي الأخلاق التي هي أضداد ما ذكر في السورة وكلا الأمرين موجود في الأنفال المناظرة لها في رد المقطع على المطلع على أتم وجه، ليكون ذلك إشارة إلى أنها شارحة لهذا ففيه الإيماء إلى ملاحظتها عند قراءتها، انظر إلى قوله تعالى :
٧٧ ( ) الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً ( ) ٧
[ الأنفال : ٤ ] الآية
٧٧ ( ) وإذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ( ) ٧
[ الأنفال : ٣٥ ]
٧٧ ( ) والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ( ) ٧
[ الأنفال : ٣٦ ] الآية
٧٧ ( ) فإن الله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ( ) ٧
[ الأنفال : ٤١ ] الآية ولقد انطبقت السورة بمعانيها وتراكيبها العظيمة ونظومها ومبانيها على الأراذل الأدنياء الأسافل، وأحاطت برؤوسهم