تعالى: فَانْتَشِرُوا وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أمر ومقتضى الأمر هنا الإباحة في طلب المعاش، مثل قوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة: ٥/ ٢].
ثم عاتب الله المؤمنين حين تركوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يخطب، وخرجوا من المسجد، للاشتغال بالتجارة والاستماع إلى طبولها المعبّرة عن الفرحة بقدوم التجارة من بلاد الشام أو غيرها، وذلك في قوله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً.. أي إذا رأى المصلّون في الجامع الذين يستمعون إلى الخطبة قافلة التجارة القادمة من الشام، أو رأوا لهوا كقرع الطبول وضجيج المزامير، احتفالا بزواج وغيره، خرجوا من المسجد، وانصرفوا إلى الملاهي ومتع الدنيا، وتركوك أيها النّبي قائما على المنبر تخطب فيهم، لوعظهم وإرشادهم، فقل لهم أيها الرسول: ما عند الله من الثواب العظيم في الدار الآخرة خير من اللهو ومن التجارة التي هي هنا سبب الخروج، والله مصدر الرزق وخير الرازقين، فمنه اطلبوا الرزق، وإليه توسّلوا بعمل الطاعة، فذلك من أسباب تحصيل الرزق وأعظم ما يجلبه، والله يرزق بسخاء من توكّل عليه، وطلب الرزق في وقته، وهو سبحانه كفيل برزق العباد، ولن يحرم أحد رزقه أو ينقص منه شيء بسبب الصلاة. وقوله تعالى: وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ مناسب لكل من التجارة واللهو الذي هو كالتبع للتجارة.
نزلت هذه الآية بسبب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان قائما على المنبر، يخطب يوم الجمعة، فأقبلت عير (إبل محملة بالتجارة) من الشام، تحمل ميرة (طعاما للسفر ونحوه) وصاحبها دحية بن خليفة الكلبي. قال مجاهد: وكان من عرفهم أن تدخل العير المدينة بالطبل والمعازف والصياح من ورائها، فدخلت العير بمثل ذلك، فانفض أهل المسجد إلى رؤية ذلك وسماعه، وتركوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائما على المنبر، ولم يبق معه غير اثني عشر رجلا، قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أنا أحدهم.