تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات)
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ [الحج: ٢٣ - ٢٤].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما أخبر تعالى عن حال أهل النار -عياذاً بالله من حالهم- وما هم فيه من العذاب والنكال والحريق والأغلال، وما أعد لهم من الثياب من النار؛ ذكر حال أهل الجنة -نسأل الله من فضله وكرمه- فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ [الحج: ١٤] أي: تتخرق في أكنافها وأرجائها وجوانبها وتحت أشجارها وقصورها يصرفونها حيث شاءوا وأين أرادوا ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا﴾ [الحج: ٢٣] من الحلية، ﴿مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا﴾ [الحج: ٢٣] أي: في أيديهم، كما قال النبي ﷺ في الحديث المتفق عليه: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)].
والمعنى أنهم يحلون بالأساور في أيديهم، أسورة كأسورة الذهب يلبسها المؤمنون، وأسورة الدنيا لا يلبسها إلا النساء، لكن في الجنة يختلف الحال، فالمؤمنون يتحلى ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا﴾ [الحج: ٢٣] في أيديهم، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء) يعني: يحلى في يديه حيث يبلغ الوضوء؛ ولهذا كان أبو هريرة رضي الله عنه يطيل الماء، ويقول سمعت خليلي رسول الله ﷺ يقول: (تبلغ الحيلة من المؤمن حيث يبلغ الوضوء؛ فمن استطاع منكم أن يطيل غرته وتحجيله فليفعل)، فكان يجتهد رضي الله عنه في ذلك، وإذا غسل ذراعه تجاوز حتى يصل إلى الأبط، يتأول ذلك ويقول: لكي تصل الحلية إلى هنا، وإذا غسل رجله تجاوز الساق حتى يكاد يصل إلى الركبة، اجتهاداً منه رضي الله عنه، ويقول: سمعت خليلي ﷺ يقول: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء؛ فمن استطاع منكم أن يطيل غرته وتحجيله فليفعل)، فالمؤمن يحلى بأساور الذهب واللؤلؤ في يديه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال كعب الأحبار: إن في الجنة ملكاً لو شئت أن أسميه لسميته، يصوغ لأهل الجنة الحلي منذ خلقه الله إلى يوم القيامة، لو أبرز قلب منها -أي: سوار منها- لرد شعاع الشمس كما ترد الشمس نور القمر.
وقوله تعالى: ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ [الحج: ٢٣] في مقابلة ثياب أهل النار التي فصلت لهم، لباس هؤلاء من الحرير إستبرقه وسندسه، كما قال تعالى: ﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ﴾ [الإنسان: ٢١]].
المعنى: أنهم يلبسون نوعين من الحرير: سندس وإستبرق، أحدهما: غليظ والآخر رقيق، والسندس والإستبرق له بريق ولمعان، فهما نوعان من الحرير أحدهما رقيق والآخر غليظ.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال تعالى: ﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإنسان: ٢١ - ٢٢]، وفي الصحيح: (لا تلبسوا الحرير ولا الديباج في الدنيا؛ فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)، قال عبد الله بن الزبير: من لم يلبس الحرير في الآخرة لم يدخل الجنة، قال الله تعالى: ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ [الحج: ٢٣] وقوله تعالى: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ [الحج: ٢٤]، كقوله تعالى: ﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ﴾ [إبراهيم: ٢٣]، وقوله تعالى: ﴿وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: ٢٣ - ٢٤]].
يعني يقول: إن أهل الجنة يلبسون الحرير، والذي في الآخرة لن يلبس الحرير معناه أنه ممنوع من دخول الجنة؛ لأن من دخل الجنة لبس الحرير، ومن لم يلبس الحرير ممنوع من دخولها.
هذا معنى كلامه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) هذا من باب الوعيد، ويدل على أنه من الكبائر، وأما من تاب تاب الله عليه، وفي الحديث الآخر: (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة)، قال بعض العلماء: إنه إذا دخل الجنة لا يشتهي الخمر، وعلى كل حال هذا الحديث من باب الوعيد ومن تاب تاب الله عليه.
والوعيد إن شاء الله أنفذه، وإن شاء لم ينفذه، مثل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء: ١٠].
والوعيد على الفعل يدل على أنه من الكبائر، مثل قوله: (لا يدخل الجنة قتات)، يعني.
نمام، وقوله: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، هذا كله من باب الوعيد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: ﴿وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: ٢٣ - ٢٤].
وقوله تعالى: ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا﴾ [الواقعة: ٢٥ - ٢٦]، فهدوا إلى المكان الذي يسمعون فيه الكلام الطيب.
وقوله تعالى: ﴿وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا﴾ [الفرقان: ٧٥] لا كما يهان أهل النار بالكلام الذي يوبخون به ويقرعون به، يقال لهم: ﴿ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ [آل عمران: ١٨١]، وقوله تعالى: ﴿وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ [الحج: ٢٤]، أي: إلى المكان الذي يحمدون فيه ربهم على ما أحسن إليهم وأنعم به وأسداه إليهم، كما جاء في الحديث الصحيح: (إنهم يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس).
وقد قال بعض المفسرين في قوله: ((وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ القول))، أي: القرآن، وقيل: لا إله إلا الله، وقيل: الأذكار المشروعة].
وكل هذه المعاني حق، فقد هداهم الله للقرآن وللأذكار المشروعة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [﴿وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ [الحج: ٢٤] أي: الطريق المستقيم في الدنيا، وكل هذا لا ينافي ما ذكرناه، والله أعلم].
ليس في الجنة عمل بل هي دار نعيم، ويلهمون فيها التسبيح كما يلهمون النفس ويتنعمون به.